أحكم قرار الحكومة السودانية، القاضي بتوحيد سعر صرف الجنيه السوداني، الذي أعلنته الأحد 21 فبراير (شباط) الحالي، سيطرة المصارف التجارية في البلاد على حركة بيع وشراء العملات الأجنبية من داخل السودان وخارجه، بعد أن كانت تتحكم فيها السوق الموازية من دون منازع أو منافسة، نظراً لعجز خزينة بنك السودان المركزي عن توفير الاحتياطي اللازم من العملات، خصوصاً الدولار، لسنوات طويلة، وهو ما أحدث صدمة وارتباكاً وسط العاملين في السوق السوداء، واختفاء ظاهرة التجار الذين يمارسون نشاط بيع وشراء العملات علناً في طرقات ومركز العاصمة الخرطوم.
وشهدت مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وكذلك الطرقات والمواقع العامة في العاصمة الخرطوم، حملة شعبية واسعة الانتشار تدعو المواطنين والمغتربين السودانيين إلى التعامل مع البنوك التجارية والصرافات المعتمدة في تغيير وتحويل العملات الأجنبية، وعدم التعامل مع تجار العملة في السوق الموازية، دعماً للاقتصاد السوداني، من خلال مبادرة أطلق عليها "حول قروشك بالبنك"، وتسابقت محلات ومطاعم ومؤسسات تجارية في مجالات مختلفة إلى إعلان تخفيضات كبيرة لمنتجاتها، وأخرى بأسعار رمزية بلغت جنيهاً واحداً، مقابل إبراز إيصال تحويل عملة عبر البنك.
في هذا السياق، يشير أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية، عبد العظيم المهل، إلى أن "من الواضح أن سياسة تحرير سعر الصرف لاقت السند والدعم الشعبي غير المسبوقين، ما منحها زخماً إضافياً، بالتالي يتوقع أن يكون أثرها أكثر إيجابية عند وصول الودائع المختلفة في حال أوفى كل من صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وأصدقاء السودان، بالتعهدات المالية، وهو الأثر نفسه الذي حدث أخيراً في مصر وتنزانيا وأوغندا، لكن لا بد من إيجاد احتياطي من العملات الأجنبية في بنك السودان المركزي لتغطية الطلب من هذه العملات وتناميه المستمر، لا سيما أن السوق السودانية ضعيفة للغاية، فضخ أي كمية من الأموال يؤثر على هذه السوق بشكل كبير، لذلك، ديمومة هذا الوضع تتطلب أن يتم خلال الفترة المقبلة العمل على تغطية الاحتياجات الرئيسة للمواطنين كالوقود والدقيق والدواء، وأن تتم التغطية من مصادر وموارد ثابتة، من دون الاعتماد على المصادر الخارجية أياً كان نوعها".
ارتباك واضطراب
وتابع المهل "هذه الإجراءات وضعت الآن السوق الموازية في حال ارتباك واضطراب لأول مرة، وقلبت كل المعادلات والموازين بعد أن كان الدولار يتحكم فيه الوسطاء في السوق السوداء، وهذا وضع غريب أن تكون السوق الموازية أقوى من الدولة، لكن أتوقع بعد الحملة الشعبية العارمة أن تستقيم الأمور نحو الأفضل، خصوصاً مع دخول الحكومة كبائعة للدولار، فمن المؤكد أن 90 في المئة من تجار العملة سيغادرون هذه السوق بلا عودة. كما يجب أن تتحكم الدولة في حركة الصادرات، وخاصة في المؤسسات الكبيرة المنتجة، بأن تعاد ملكيتها للدولة حتى تضمن دخول أموال الصادرات خزينة الدولة، ومن تلك المؤسسات مؤسسة الصمغ العربي، والأقطان، والثروة الحيوانية، والحبوب الزيتية، والتعدين، إذ تتبع هذه المؤسسات للدولة وتقوم بتصدير منتجاتها للأسواق الخارجية، ما يضمن دخول إيراداتها خزينة بنك السودان المركزي عبر النظام المصرفي".
وأشار أستاذ الاقتصاد أيضاً إلى أن من أهم مؤشرات نجاح السياسة الاقتصادية الجديدة للدولة، عودة الثقة للجنيه السوداني مرة أخرى، ما يؤدي إلى استقطاب 10 مليارات دولار موجودة في يد المواطنين بخزائن منازلهم، وهو يعد أهم من استقطاب أموال المغتربين والمستثمرين، كما أنه من المهم أن تقوم البنوك بإيجاد نافذة خاصة تعمل في تداول العملات الأجنبية، فضلاً عن العمل على تفعيل الصرافات وضبطها، وضرورة منافسة البنوك تجار السوق السوداء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ضبط الذهب
في سياق متصل، يوضح الاقتصادي السوداني، سعيد الأمين، أن "البنوك السودانية استعادت الآن وضعها الطبيعي مع بدء إجراءات توحيد سعر الصرف، فهناك إقبال كبير من قبل المواطنين والمغتربين في الخارج بتفضيل التحويل عبر الجهاز المصرفي وعدم اللجوء للسوق الموازية، لقلة فارق السعر واستجابة لنداء الوطن بدعم الاقتصاد، لكن هذا الإقبال المتزايد يلزم بنك السودان المركزي أن يكون لديه احتياطي وفير من العملات الأجنبية، وفي تقديري إن السلطات المختصة في البلاد، إذا تمكنت من ضبط حصائل صادرات الذهب، بإمكانها أن تغطي خلال وقت وجيز العجز في ميزان المدفوعات، أي باستطاعتها في المدى المتوسط (من 4 إلى 6 أشهر) توفير مبلغ 4 مليارات دولار، كما أنه لا بد من ضبط الكتلة النقدية خارج النظام المصرفي، وهي كبيرة جداً، لأنها تعمل في مجال المضاربة في سوق الدولار والذهب".
وتوقع الأمين انحسار سوق العملات الموازية وتحجيمها نهائياً، على ضوء الضوابط والإجراءات المحكمة للسلطات المختصة، وتوقف الحكومة عن شراء الدولار من السوق السوداء لعدم احتياجها له، لكنه يرى ضرورة معالجة بعض الثغرات في القطاع المصرفي، وخاصة مسألة زيادة منافذ البيع والشراء، لأنها لا تتناسب مع حجم الاقبال المتزايد، مؤكداً أنه إذا سارت الأمور بهذا الشكل، لا سيما من ناحية تدفق النقد الأجنبي ووجود احتياطي كبير لدى البنك المركزي، فضلاً عن انتظام التحويلات من الخارج، وانضباط عائدات الذهب وبقية السلع الأخرى، فإن الاقتصاد السوداني سيكون له شأن كبير في المستقبل القريب.
حملات أمنية
وبحسب متعاملين في السوق الموازية للعملات في الخرطوم، فإن حركة البيع والشراء في هذه السوق تراجعت بنسبة 90 في المئة، نظراً لتقارب سعر التداول بين السوق الموازية والبنوك، ما جعل الكثيرين يفضلون التعامل مع البنوك من ناحية أنها أكثر أماناً، خصوصاً شريحة المغتربين في الخارج التي كانت تعتمد قبل قرار توحيد سعر الصرف في تحويلاتها على تجار العملة نظراً لاتساع فارق السعر، إذ كان يتم تداول سعر الدولار الواحد في البنوك الرسمية بـ55 جنيهاً سودانياً، بينما وصل سعره في السوق الموازية إلى 400 جنيه.
وقال تاجر العملات في السوق الموازية ياسر عبد الرحيم، "حقيقة، إن الوضع في السوق السوداء للدولار تغير تماماً، ولم يعد هناك طلب إلا في نطاق محدود جداً، والسبب يرجع لتوافر العملات الأجنبية، وخصوصاً الدولار، في البنوك وبأسعار متقاربة للسوق الموازية، إلى جانب وجود حملات أمنية قد تعرّض الشخص للمساءلة، فتجار العملات الآن ينتظرون ما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلاً، من ناحية مدى إمكانية صمود البنوك بالإيفاء بالتزاماتها نحو عملائها، فإذا استمر الأمر على هذا المنوال، من المؤكد أنه لن تكون هناك سوق موازية، وستتلاشى تماماً من الوجود. أما في حال عجز البنوك عن توفير احتياجات عملائها، فستنشط سوق العملات الموازية، وبصورة أكبر، لأن هناك طلباً كبيراً على الدولار في ظل تدني حركة الصادرات".
ولفت التاجر علاء الدين عباس، من جهته، إلى أنه "صحيح أن التعامل بالدولار في السوق السوداء انخفض بشكل كبير، وقل الطلب من ناحية البيع والشراء، فقبل قرار توحيد سعر الصرف، كان هناك هلع من المواطنين بعدم الاحتفاظ بالعملة السودانية، لذلك كان هناك طلب كبير على الدولار، في ظل عدم توافره في البنوك التجارية، ما أحدث نشاطاً كبيراً في السوق السوداء وارتفاع اسعار العملات بمعدلات كبيرة يومياً، لكن الآن، هناك ارتباك وحال من عدم التوازن في هذه السوق، فلم تعد جاذبة كما كان في السابق لكثير من الناس، لأن فارق السعر بينها وبين البنوك ضئيل جداً، والأمر غير مشجع، بالنظر للمخاطر التي يمكن أن يتعرض لها المواطن، سواء من الناحية الأمنية، أو هاجس انتشار عملات مزورة، وغير ذلك، فحالياً معظم التجار ينتظرون ما ستسفر عنه الأيام المقبلة".
تحويلات المغتربين
وأدت إجراءات توحيد سعر الصرف في البلاد، الذي بلغ في المتوسط 376 جنيهاً للدولار الواحد، إلى استئناف التحويلات الخارجية بين البنوك السودانية وغيرها من البنوك في دول العالم، وشهدت بلدان المهجر في دول الخليج، والدول الأوروبية، وأميركا تدافع السودانيين المغتربين والمهاجرين إلى تحويل أموالهم إلى السودان عبر البنوك مباشرة، بعد أن كان معظمهم يتعاملون في السابق مع تجار السوق الموازية.
وتم يوم الجمعة 26 فبراير الحالي، الإعلان عن نجاح أول عملية تحويل مصرفية من بنك الصين الرئيسي إلى أحد البنوك في الخرطوم عبر عدد من الحسابات الشخصية، لأول مرة منذ 27 عاماً، نتيجة للعقوبات الدولية التي فرضتها واشنطن عام 1993، وتم بموجبها وضع السودان في لائحة الدول الراعية للإرهاب، ما أدى إلى عزلته دولياً.
وفي عام 1997 فرضت أميركا عقوبات اقتصادية على حكومة الرئيس السابق عمر البشير، لكن الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما أنهى العمل بهذه العقوبات في 2017.
ونجحت الحكومة الانتقالية في البلاد برئاسة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، في الوصول إلى تسوية مع الولايات المتحدة الأميركية أزالت بموجبها اسم السودان من لائحة الإرهاب.