لا ريب أن تحقيق "الخبطة الصحافية" المعروفة بالإنجليزية بتعبير "سكوب" حلم يداعب كثيراً من الصحافيين. فكيف إن كانت خبطة من نوع نادر بل من نوع لا يمكن أن يوجد إلا مرة واحدة؟ في مثل هذه الحال تكون "الخبطة" أشبه بلوحة فنية ترتفع قيمتها؛ لأنه لا يمكن أن يوجد ما يماثلها، ما يعني أن مجرد الإعلان عن وجودها في مطبوعة ما سوف يحرك مئات الألوف وربما الملايين من القراء للاطلاع عليها "في مصدرها". ويقيناً، فإن الإعلان ذات يوم من عام 1983 عن العثور على ما سمي "أوراق هتلر" ونشر مقتطفات من تلك الأوراق في ثلاث مطبوعات أوروبية بدا "خبطة العمر" بالنسبة إلى تلك الصحف التي نشرت معاً، وباتفاق مع "جهات لم تعلن عنها أول الأمر" تلك الصفحات المدهشة التي انتظرها كُثر من الناس بلهفة ما إن أعلن عنها بعد ما جرى حديث غامض تناول وجودها في لعبة دعائية قل نظيرها.
ثلاث مجلات رئيسة وملحق "التايمز"
كانت المطبوعات الناشرة موزعة بين اللغات الأوروبية الثلاث: الألمانية طبعاً، عبر مجلة "شتيرن"، ثم الإيطالية عبر مجلة "بانوراما"، وبعد ذلك الفرنسية عبر مجلة "باري ماتش". ومن يعرف الحياة الصحافية الأوروبية كما كانت في عز ازدهارها عهد ذاك، يمكنه أن يتذكر أن تلك المجلات الأسبوعية الثلاث كانت الأنجح والأكثر شعبية في بلدانها، وعلى الصعيد العالمي أيضاً. ولقد كان من المتوقع أول الأمر، أن تزيد تلك "الخبطة" من شعبية تلك المجلات وأهميتها. وهي فعلت ذلك عملياً، ولكن لأيام معدودة قبل أن ينقلب كل شيء إلى عكسه. وبالتحديد في السادس من مايو (أيار) 1983 اليوم الذي راح يعتبر منذ ذلك الحين أكثر الأيام سواداً بالنسبة إلى المطبوعات الأوروبية الثلاث التي أشرنا إليها، إضافة إلى ملحق يوم الأحد السابق لصحيفة "التايمز" اللندنية. فحتى ذلك اليوم كانت تلك الصحف المعتبرة من أكثر الصحف الأوروبية شعبية واحتراماً، تعتقد أنها حققت معاً صفقة العمر بنشرها، وفي وقت واحد وبلغات عدة، ما كانت تعتقده دفاتر هتلر السرية "التي عُثر عليها، وتتضمن العديد من المفاجآت والأسرار والإجابات عن أسئلة لم يتمكن أحد من الإجابة عنها منذ الرحيل الغامض للديكتاتور النازي".
فما الذي حدث في ذلك اليوم؟
مؤامرة ضد هتلر؟
حدث أن وزير الداخلية في ألمانيا الغربية وقف بنفسه أمام رجال الصحافة ليعلن أن دفاتر هتلر ليست حقيقية، بل إنها دفاتر مزورة. في البداية كانت الصدمة قوية، بل خُيل لكثيرين أن ما يحاول فردريش زيمرمان، وزير الداخلية المذكور أن يقوله، إنما هو لعبة سياسية غايتها منع أوراق هتلر من الانتشار. ولكن أمام الوقائع كان لا بد مما ليس منه بد، كان لا بد لمجلة "شتيرن" نفسها صاحبة الخبطة، أن تعلن الحقيقة، بعد أن كان قد نزل إلى الأسواق عددها حاملاً على غلافه إشارة صاخبة إلى نشر الأوراق الهتلرية الموعودة. ففي يوم السابع من مايو، أي في اليوم التالي لإعلان وزير الداخلية المذكور، اعترفت المجلة بأنها خُدعت، وأن الدفاتر السرية مزورة بالفعل، وأنه لا علاقة لهتلر بها، لا من قريب، ولا من بعيد. وطارت فرحة القراء، لا سيما منهم أولئك الذين كانوا لا يزالون يحنون إلى هتلر ومذابحه وأفكاره، من الذين اعتقدوا لأيام قليلة أن "كتابهم المقدس" أي كتاب "كفاحي" لأدولف هتلر صار له أخ. وربما أخ أكثر عمقاً منه وأكثر ارتباطاً بالأحداث العملية نظراً إلى أن "كفاحي" كان قد كتب قبل ذلك بزمن طويل، بل بالتحديد من قبل أن يستولي هتلر ونازيوه على السلطة– بالديمقراطية من فضلكم ولكن عبر تصويت عام أدلى به شعب كانت الأزمة الاقتصادية قد التهمته ولم يعد يؤمن لا بالأحزاب ولا بأي أيديولوجية إنسانية، فوجد نفسه أمام أكاذيب الهتلريين ليختارهم من دون أن يعي بالكارثة التي سيجرّونه إليها. ولكن بدلاً من الحصول على كتاب يفسر لهم، على مزاج الفوهرر، "المؤامرة العالمية البلشفية– البريطانية– الصهيونية– الماسونية" التي حيكت ضد الزعيم، حصلوا على مجموعة ضخمة من نصوص زائفة جعلت الأخوة من نصيب كتاب نازي آخر هو طبعاً "بروتوكولات حكماء صهيون" الذي تبين أن "أوراق هتلر" يشاركه مصيره ككتاب كاذب ومزور. وهكذا عاد "كفاحي" إلى عزلته المقيتة وارتد مناصرو هتلر يضربون كفاً بكف، حتى وإن كان من بينهم من لم يصدق حكاية التزوير ليعتبر الأمر مؤامرة جديدة ضد هتلر!
مبالغ طائلة
مهما يكن، فقد كان الإقرار رسمياً وعلى لسان السلطات الألمانية العليا التي لم يكن في إمكان أحد اتهامها بالكذب في هذا المجال، لا سيما وأن الصحف المعنية نفسها سرعان ما اعترفت بخطئها، وبأنها تعرضت إلى عملية احتيال وخداع لا لبس فيها، بمثابة ضربة موجعة، إذ لم يقتصر الأمر على خسارة ملايين الماركات التي أنفقت على الدفاتر السرية، وعلى الدعاية لنشرها، وعلى ضرورة إعادة المبالغ التي كانت دفعت، ثمناً لحقوق النشر في اللغات الأخرى، من قبل العديد من الصحف والمجلات الأوروبية وغير الأوروبية، بل كانت هناك سمعة المجلة الألمانية "شتيرن" بالدرجة الأولى لأنها كانت هي "صاحبة حقوق النشر"، وباعت الحقوق بالتالي إلى عدد من المطبوعات العالمية. ومن هنا كانت القضية قضية "شتيرن" وهيبتها في العالم، بمقدار ما كانت هيبة المهنة الصحافية ككل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقائع مادية
وفي الوقت الذي كان فيه الناطقون باسم "شتيرن" يعلنون هذا النبأ الحزين والمؤسف ويعتذرون لقرائهم كانت السلطات الرسمية الألمانية، عطفاً على تصريح وزير الداخلية زيمرمان، تقدم الأدلة والبراهين القاطعة التي لا تترك أي مجال للشك في التزوير القائم. ولقد عُرف على الفور أن الحكومة الألمانية قد عهدت بالقضية كلها إلى ثلاث مؤسسات رسمية لا يرقى الشك إلى مصداقيتها "دائرة المحفوظات الفيدرالية، والمكتب الفيدرالي للجنايات (BKA)، وأخيراً المكتب الفيدرالي لدراسة الوثائق". ولقد أجمعت هذه المؤسسات الثلاث على أن التزوير قائم لا شك فيه. فإلى جانب اختلاف أسلوب الكتابة عن أسلوب هتلر المعروف، كانت هناك جملة وقائع مادية أخرى نتجت عن الدراسة التحليلية المعمقة التي أخضعت لها أوراق الدفاتر الستة وخيوط تجليدها والحبر المستخدم في كتاباتها. ولقد تبين بشكل خاص أن الورق الذي تتألف منه الدفاتر يحتوي على مادة البوليستر بولياميد، وهي مادة لم تكن معروفة من قبل 1955، وبالتالي كان من المستحيل طبعاً وجود مثل ذلك الورق في سنوات هتلر الأخيرة. كذلك تبين أن المواد الأخرى المستخدمة يعود تاريخ صنعها جميعاً إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية.
وسرقة أدبية كذلك!
ومن ناحية ثانية تبين للفاحصين، من مستوى النص هذه المرة، أن مؤلف أو مؤلفي أوراق هتلر المزعومة، إنما سرقوا العديد من الصفحات من كتاب كان المؤرخ الألماني ماكس دوماروس قد أصدره في 1962 عن "خطابات وتصريحات أدولف هتلر من 1931 حتى 1935"، وأن بعض الصفحات نقلت كما هي من دون أي تبديل أو تمحيص، انطلاقاً من اطمئنان المزورين إلى أن هذا الكتاب كان قد منع من التداول في العديد من البلدان، وبالتالي لم يحقق أي مبيعات يمكن أن تكشف حقيقة المصدر الذي ينسب الآن إلى هتلر.
أمام هذه الحقائق الدامغة، وقف مسؤول مجلة "شتيرن" غيرد هايدمان، حزيناً يعتذر قائلاً إنه إنما خدع، ومستعد لدفع الثمن. ومن المعروف أن شعبية مجلة "شتيرن" تقلصت تقلصاً كبيراً منذ ذلك الحين، وحتى لئن كانت المطبوعات الأخرى التي شاركت في نشر الخديعة قد خرجت أقل خسراناً على اعتبار أن "شتيرن" هي صاحبة المشروع والمبادرة، فإنها أصيبت بدورها واعترفت بمسؤوليتها "غير المباشرة" عن الحكاية برمتها.