خلال الحفلة الـ78 لتوزيع الـ"غولدن غلوب" (الكرة الذهبية) أسنِدت إلى جاين فوندا جائزة سيسيل ب. دوميل، فاستغلت هذه المناسبة لتلقي كلمة انتشرت مثل ألسنة النار في وسائل الإعلام العالمية. الممثلّة الأميركية الكبيرة، ابنة أيقونة هوليوود هنري فوندا، أخرجت كلّ ما في جعبتها من مآخذ وانتقادات، هي التي لطالما اشتهرت بتمردها وإصرارها على أن تقول كلمتها وتمشي. لم يخف وهجها حتى مع بلوغها الثالثة والثمانين، ولم تتراجع هذه الحاجة الدائمة لديها للوقوف في وجه الأفكار الجاهزة التي أضافت عليها عدواً آخر هو الاستهلاكية في المجتمع الحديث، إذ ارتدت ثوباً كان سبق لها أن ارتدته في مناسبة أخرى. في حين تشكّل ملابس النجمات وإطلالاتهن حديث الإعلام الأول، اكتفت هي بسحب فستان "قديم" من خزانتها، مصرحة بأنها وعدت نفسها قبل بضع سنوات ألا تشتري ملابس جديدة بعد اليوم. "نحن ننفق الكثير من المال، نشتري الكثير من الأشياء، ثم نرميها. نحاول أن نطور هويتنا من خلال التسوق. علينا أن نتوقف عن هذا”.
إلا أن نضال فوندا ليس محصوراً في أشياء قد تبدو سطحية أو ثانوية لوهلة أولى. فتاريخها يشهد لسيدة ذهبت أبعد من هذا في اعتراضها على الكثير من الممارسات. فقط في سنواتها الأخيرة، لقد تم توقيفها خمس مرات، آخرها في العام 2019، عندما تظاهرت ضد التغير المناخي. على مدار أشهر في ذلك العام، كانت اعتادت النزول إلى الشارع لإسماع صوتها ولفت النظر في إتجاه قضية تؤمن بها. هناك فيديو يري عناصر الشرطة يضعون أصفاداً على يديها لاعتقالها، تظهر فيه سعيدة.
المساواة وحقوق المرأة
إلا أن خطابها في أمسية "الغولدن غلوب" يختزل كلّ ما آمنت فيه طوال حياتها: المساواة، التصدي للعنف في حق المرأة، محاربة العنصرية... في كلمتها، تناولت كلّ ما حاولت أن تغيره منذ 50 سنة، وقالت غضبها تجاه قلة التنوع في السينما الأميركية الحديثة، علماً أن إسناد معظم الجوائز إلى فنانين من أصول أفرو أميركية أو آسيوية ينسف الادعاء بأن لا تنوعاً في هوليوود. باختصار، صرحت: "يمكن للقصص أن تغير قلوبنا وعقولنا وتساعدنا في رؤية أنفسنا من منظور جديد، فتمدنا بعنصر التعاطف. لكي ندرك أنه، على الرغم من كلّ الاختلافات، نحن بشر قبل أي شيء. للسينما القدرة على كسر "دفاعاتنا" و"جعلنا نسمع ما نخاف أن نسمعه". ذكرت فوندا العديد من الأفلام كنماذج لقصص "من شأنها أن تغيرنا حقاً حقاً"، وأضافت: "ولكن هناك حكاية نخشى رؤيتها وسماعها تتحدّث عن أنفسنا في هذه المهنة. حكاية تلك الأصوات التي نحترمها ونجلها - وتلك التي نتجاهلها. حكاية مَن يجلس إلى الطاولة ومَن بقي خارج مراكز صنع القرار". بطلة "بارباريللا" تابعت حديثها بدعوة الوسط السينمائي إلى التأقلم مع الواقع ومع "التنوع الذي يظهر بفضل كلّ أولئك الذين قاتلوا في الماضي وأولئك الذين يواصلون المعركة اليوم"، ثم ختمت بالقول: "في النهاية، لم يكن الفنّ دائماً منسجماً مع التاريخ فحسب، ولكنه مهّد الطريق أيضاً. فلنكن قادة!".
فوندا التي لطالما قالت إنها تنتمي "إلى قافلة طويلة من الناس المحبطين والكئيبين في أميركا"، مسنجمة مع قناعاتها خلافاً لكثر يقولون كلاماً لا يطبقونه في حياتهم. أما النجومية فلا تعني لها الكثير. تقولها وتكررها في استمرار. فهي لم تكن يوماً تقيم في برجها العاجي، مع قدرتها على ذلك. في السبعينيات، "تورطت" في موجة الاحتجاجات ضد حرب فيتنام ولا تزال بالاستعداد نفسه لخوض أي معركة تراها عادلة.
سينمائياً، "كلوت" لألان ج باكولا (1971) و"عودة إلى الديار" لهال أشبي (1978) محطتان مهمتان في مسيرتها، إذ فازت عنهما بـ"أوسكار" أفضل ممثّلة. إلا أن "إنهم يقتلون الجياد، أليس كذلك؟" لسيدني بولاك (1969) المقتبس من رواية لهوراس ماكوي كان منعطفاً في مسيرتها. أول فيلم لها "يقول شيئاً"، وتحديداً عن المجتمع الاستهلاكي الأميركي. "كان الناس في تلك الفترة مستعدّين ليموتوا من أجل قطعة من الحلم الأميركي"، تقول وهي تتذكّر ذلك "الفيلم المهم".
الأب العظيم
لكن، بداياتها في التمثيل أعقد من هذا كله. خلفها تحديات وتعنت. تقول فوندا إنها بكيت يوم فازت بالـ"أوسكار" عن "كلوت"، لأن ذلك حدث قبل حصول والدها على الجائزة المرموقة. وهيبة الأب الممثّل العظيم هي التي كانت منعتها في البداية لتضع قدمها في السينما. والدها كان يعود من العمل ولا تبدو السعادة على وجهه، فتربت على فكرة أن التمثيل مهنة لا تجلب سوى اليأس والكآبة. ولذلك، لم تتشجع في البداية على اقتفاء أثره. تتذكّر: "والدي كان دوماً سيء المزاج. لم أنجذب إلى هذه المهنة، ولم أكن أحبّ أصلاً لا وجهي ولا جسدي، وكنت خجولة. ولكن في المقابل، لم أكن أعرف ماذا أفعل في حياتي. حاولتُ أن أكون سكرتيرة، لكنني طُردت. كنت أعيش في بيت والدي، وكانت زوجته لا تحبّني كثيراً. أمهلتني خمسة أشهر كي أجد مسكناً. فكان عليَّ أن أتدبّر أموري. كنت أعرف ابنة أستاذ التمثيل العظيم لي ستراسبرغ، فاقترحتْ أن يدرّسني. مثّلتُ مشهداً له، فأكّد لي أنني موهوبة. في هذه اللحظة، كلّ شيء تغيّر".
كان للقائها بالممثلة الفرنسية سيمون سينيوريه في باريس وقع كبير على حياتها كناشطة سياسية. تقول إن هذا اللقاء غيّر مجرى حياتها وشكّل وعيها: "كانت أيار 68. كنت في باريس. كنت حاملاً. المرأة الحامل كالإسفنجة. أشياء كثيرة كانت تحدث في باريس. رأيتُ حتى جنوداً أميركيين هربوا من فيتنام ولجأوا إلى باريس. سيمونّ سينيوريه كانت تأتي لتأخدني إلى تظاهرات يشارك فيها سارتر وبوفوار وغيرهما. هكذا بدأتُ أعي ضرورة معاداة الحرب. عدتُ إلى الولايات المتّحدة كي أصبح ناشطة. قبل هذا التاريخ، لم أكن أهتم بشيء. كم من السهل أن تكون جاهلاً. ولكن عندما تعلم، لا يعود مسموحاً أن تدير ظهرك. فأنا كنت جاهلة عمداً لفترة طويلة".
انخراطها في النضال السياسي من أجل التغيير والاستحصال على الحقوق المدنيّة أو الوقوف ضد الحرب محل فخر عند فوندا التي تتذكّر كلّ هذا وهي سعيدة بإنجازاتها. تحكي عن رحلة إلى فيتنام لا تزال آثارها ماثلة في وجدانها، وقلبها يعتصر ألماً عندما تذكر حادثة الصورة الشهيرة التي التُقِطت لها وهي في حضن "العدو"، فاعتُبرت خائنة لوطنها. في المقابل، يصعب موافقتها كثيراً على فكرة أن نشاطها النضالي جعل منها ممثّلة أفضل. ألا أننا قد نوافقها على كلامها عندما تقول: "مشكلة الكثير من الممثّلين أنهم يعيشون داخل جدران من الامتيازات. علينا أن نتعلّم أن ننصت إلى الآخرين، هذا أهم شيء اليوم في الولايات المتّحدة. علينا أن نستمع إلى الآخر الذي لا نتّفق معه ونحاول فهم حججه. وإذا كرهنا علينا كره السلوك لا الشخص. وإلا أكلتنا الكراهية".
هذه الفيمينيست التي أحبت الرجال، لم يساهم مرور الزمن في تهدئة معاركها ضد كل أنواع السلطات، إنما في تهذيبها وتنقيتها والحدّ من استعراضيتها. تقول وتكرر إن على الغضب أن يصب على السلوك، لا على صاحبه، حرصاً منها على "عدم التحوّل إلى وحش وهي تحارب الوحوش".