مع رحيل إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب ودخول الرئيس الديمقراطي جو بايدن البيت الأبيض، بدأ الكلام عن تغيير في السياسة الأميركية تجاه منطقة الشرق الأوسط عموماً وإيران خصوصاً، أو على الأقل الوصول إلى مرحلة من التهدئة للأوضاع المشتعلة في الإقليم. وكان الرئيس بايدن قد صرح في أكثر من مناسبة أنه مستعد لعودة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي مع إيران، لكنه على علم بمدى الصعوبات التي تواجهه، إذ إن الأمر لن يكون مشابهاً للعام 2015 تاريخ الاتفاق. وقال في حوار مع صحيفة "نيويورك تايمز" إن "الأمر لن يكون سهلاً، لكن نعم"، إن "الإدارة المستقبلية تعتزم، بالتعاون مع الحلفاء والشركاء، المشاركة في مفاوضات ووضع اتفاقيات إضافية من شأنها تعزيز وتوسيع القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني، وكذلك تتعلق ببرنامج طهران الصاروخي". الرئيس بايدن الذي يعتمد استراتيجية اتخاذ خطوات صغيرة بين الجانبين على أساس مبدأ "الأقل مقابل الأقل" شعار واشنطن في هذه المحادثات، يتعامل بحذر مع الأمر، لكنه لا يزال من غير الواضح كيف سيتم تطبيق هذه الاستراتيجية. الثابت الوحيد حتى الأن أن بايدن قد يستأنف المحادثات مع إيران مقابل التزامها الكامل بالاتفاق، قبل أن تخطو الولايات المتحدة أي خطوة.
إيران تشترط
كانت المواجهات قد وصلت بين الولايات المتحدة وإيران إلى أسوأ مراحل المواجهة خلال السنوات الأربع الماضية، أي خلال تولي ترمب قيادة الولايات المتحدة. وقد انتقد ترمب الاتفاق النووي واعتبر أنه "لا يتطابق مع المصلحة الوطنية لواشنطن"، وأنه أكثر سخاء مع إيران ولن يمنعها من محاولة تطوير سلاح نووي، ووصفه بأنه "أحد أكثر الصفقات فشلاً على الإطلاق"، حتى وصل به الأمر إلى الانسحاب من الاتفاقية في مايو (أيار) 2018. وما لبث أن انتهج سياسة العقوبات و"الضغط القصوى" تجاه إيران. الإخلال بتطبيق الاتفاق من ناحية وسياسة العقوبات القصوى من ناحية أخرى، دفع بالفريقين إلى التعامل بعدم ثقة. وهذا ما كان واضحاً من خلال اشتراط الرئيس الإيراني حسن روحاني رفع العقوبات قبل كل شيء، وما صرح به وزير الخارجية محمد جواد ظريف، من أن الاتفاق قد يتعرض للخطر إن لم تخفف واشنطن العقوبات المفروضة على طهران قبيل الانتخابات الإيرانية في يونيو (حزيران) المقبل، والتي قد تسفر عن إدارة جديدة متشددة وأقل تسامحاً مع الأميركيين.
واقع خاص في إيران
في السياق، نشرت مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، 26 فبراير (شباط) الماضي، تقريراً بعنوان "عقيدة كارتر الأخرى". يقول التقرير أثناء حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 1980، كان رونالد ريغان يمزح في كثير من الأحيان قائلاً إن جيمي كارتر أتاه في المنام، سائلاً إياه عن سبب رغبته في وظيفته، فيرد ريغان ساخراً "أنا لا أريد وظيفتك، بل أريد أن أصبح رئيساً". في المخيلة الشعبية الأميركية، غالباً ما ينظر إلى كارتر كرئيس فاشل لولاية واحدة، فلم يستطع ترويض التضخم، متحسراً على الضائقة الوطنية، وعام 1979 وجد نفسه مهاناً عندما أطاح الثوار المناهضون للولايات المتحدة في إيران، محمد رضا شاه بهلوي، حليف واشنطن، واحتجزوا 52 رهينة أميركية في السفارة الأميركية في طهران. يتابع التقرير أنه بغض النظر عما إذا كان كارتر يستحق هذا النقاش، لكن في العقود الأربعة الماضية منذ أن ترك منصبه، أصبح من الواضح، على الأقل في الحالة الإيرانية، أن كارتر كان أبعد ما يكون عن الضعف والتعاسة. في الواقع، فإن كارتر، كما يظهر في السجلات التاريخية، بما في ذلك بعض الوثائق التي رفعت عنها السرية أخيراً، يعتبر ضمن فريق الصقور المناهضين لإيران، بسبب، مناشدته المتكررة الشاه لقمع الثورة بالقوة، ومحاولة التحريض على الانقلاب لإنقاذ النظام الملكي، فيما ألزم الولايات المتحدة بسياسة تغيير النظام الإيراني بعد نجاح الثورة. أي أن كارتر حاول جاهداً إفشالها والعودة إلى ما قبلها، لكن الإيرانيين لم يستمعوا لواشنطن. وعليه، فإن الدرس المستفاد لصانعي السياسة الأميركيين اليوم واضح، لا يمكن للولايات المتحدة أن تخلق واقعها الخاص في إيران.
"عقيدة كارتر"
شكلت سلسلة الإخفاقات الكبيرة في الخارج، وأزمة الرهائن في طهران وغزو الاتحاد السوفياتي أفغانستان، شعوراً بالاستياء والسخط لدى عموم الشعب الأميركي خلال عهد الرئيس الديمقراطي جيمي كارتر. ومع أن عهده كان باهتاً إلا أنه أفرز "عقيدة كارتر" التي خدمت مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها بالشكل الأمثل منذ ذلك الوقت. عقيدة كارتر أو (Carter Doctrine) هي سياسة أميركية تم إعلانها من قبل الرئيس السابق كارتر خلال خطاب حالة الاتحاد السنوي في 23 يناير 1980، وينص المبدأ على السماح للولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية للدفاع عن مصالحها في منطقة الخليج العربي. أتت العقيدة كرد على غزو الاتحاد السوفياتي أفغانستان في عام 1979. وذكر كارتر أن القوات السوفياتية في أفغانستان "تشكل تهديداً خطيراً لحرية حركة نفط الشرق الأوسط". بعد ذلك، واصل خلفه ريغان، اعتماد هذه الاستراتيجية التي أضحت تعرف في ما بعد باسم "مبدأ ريغان"، الذي تلتزم فيه واشنطن بالدفاع عن سلامة نقل نفط الخليج ضد التهديدات من داخل الشرق الأوسط. منذ ذلك الوقت، أدركت الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة أن دور الولايات المتحدة في حماية صادرات النفط الخليجية يشكل عنصراً حاسماً في النظام الدولي الذي بنته الولايات المتحدة بعد سنة 1945، وهو نظام جعل أميركا أقوى وأكثر أماناً وازدهاراً، مما كان يمكن أن تكون دونه.
ليلة الاستيلاء على السفارة الأميركية في طهران
يتابع التقرير أنه عام 1978 شهدت إيران حالة تراجع، حيث كان الجو السياسي خانقاً، والجواسيس والمخبرون في كل مكان. وخلف بريق التحديث الاقتصادي للشاه، كانت إيران تشهد نهضة دينية، واستعاد مزيد من الناس إيمانهم، وتطلعوا إلى قادتهم الروحيين آملين في أن يكون لهم دور أكبر في الشؤون الوطنية، وبينما كان المسجد مكاناً مفتوحاً للعبادة لا يمكن إغلاقه، أصبح أهم منصة للمعارضة. وكان الشاه، الذي يُعتمد عليه عادة، يواجه تمرداً غير قادر على السيطرة عليه أو احتوائه، بينما كان الخميني يستدعي الإيرانيين لقضية عظيمة، ثورة شُنت باسم الله وقادها المنتقمون الإسلاميون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لم ينهِ زوال سلالة بهلوي الصراع بين إدارة كارتر وما يعرف الآن باسم جمهورية إيران الإسلامية، فقد كان الخميني مصمماً على إذلال الولايات المتحدة ومعاقبة كارتر، لذا كانت السفارة الأميركية هدفاً مستساغاً. لكن لعقود مضت، ادعى المؤرخون أنه لم يكن على علم مسبق بمؤامرة الاستيلاء على مبنى السفارة، إنما استغل الحادثة بمهارة، لإشعال نيران معاداة الولايات المتحدة، لكن ذلك لم يكن رأي وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية. فبعد وقت قصير من استيلاء المتشددين على السفارة، اجتمع مجلس الأمن القومي التابع لكارتر، وخلاله قال ستانسفيلد تيرنر، مدير وكالة الاستخبارات المركزية للمسؤولين المجتمعين، "يبدو أن الخميني أعطى الإذن باحتلال السفارة"، ورأى تيرنر أن "فرص التفاوض معهم لا تبدو جيدة". وفقاً لسجلات الاجتماع التي رفعت عنها السرية أخيراً. وجهة النظر هذه، حول دور الخميني، أكدها بشدة محمد مهدوي كني، الذي كان مسؤولاً عن الأمن الداخلي للنظام الإيراني ذاك الوقت. حيث يورد في مذكراته أنه بعدما هاجم المسلحون السفارة، اتصل بنجل الخميني أحمد، الذي عمل كرئيس لموظفي والده، "ليلة احتلال السفارة اتصلت بأحمد وسألته ماذا يحدث؟" في البداية، ضحك فحسب ولم يرد. ثم سألته: "هل تعلم بهذا؟" ضحك ثانية. أخيراً، وبعد إصراري عليه، قال، "الإمام الخميني راض عن هذا ولا يجب أن تتورط فيه". فبتحريض من الخميني، هاجم أتباعه المتشددون السفارة واحتجزوا 52 أميركياً رهائن لـ 444 يوماً.
برنامج سري لتغيير النظام في إيران
عجز كارتر عن تحرير الرهائن، يرمز إلى ذلك بأنه مهمة إنقاذ فاشلة انتهت بكارثة، وكان ذلك عبر عملية عسكرية فاشلة نفذتها القوات المسلحة الأميركية إلى جانب القوات الخاصة في 25 إبريل (نيسان) 1980 لتحرير الرهائن الأميركيين، باسم مخلب النسر، لكنها باءت بالفشل وأدت إلى تدمير طائرتين ومقتل ثمانية جنود. وبحسب تقرير "فورين أفيرز"، هذا ما أظهر أن الولايات المتحدة تبدو كعملاق عاجز، ما جعل كثيراً من الأميركيين يستنتجون أن كارتر يفتقر إلى الإرادة لمواجهة الخميني، لكن وراء الكواليس، التزم بإسقاط الجمهورية الإسلامية. وتكشف الوثائق التي رفعت عنها السرية مؤخراً أنه في ديسمبر( كانون الأول) 1979، أصدر كارتر تقريراً رئاسياً، وهو إخطار إلى الكونغرس بموجب القوانين التي تم تمريرها في أعقاب فضيحة "ووترغيت "يأمر فيه وكالة الاستخبارات المركزية بـ "إجراء عمليات الدعاية والعمل السياسي والاقتصادي لتشجيع قيام نظام مسؤول وديمقراطي في إيران، وإجراء اتصالات مع قادة المعارضة الإيرانية والحكومات المهتمة، من أجل تشجيع التفاعلات التي يمكن أن تؤدي إلى جبهة واسعة موالية للغرب قادرة على تشكيل حكومة بديلة". ووفقاً لملاحظات اجتماع 20 ديسمبر، التي رفعت عنها السرية، حيث أكد سايروس فانس وزير الخارجية أنذاك، لمجموعة من كبار المسؤولين وأعضاء مجلس الوزراء أن "الاكتشاف يمثل خطوة رئيسة، ويشير إلى أن هذه المجموعة اتخذت قراراً بجمع الجماعات كلها معاً لإسقاط الخميني". استند قرار محاولة تغيير النظام في إيران إلى عدد من الافتراضات التي وضعها مجمع الاستخبارات، فقد كان حكم وكالة الاستخبارات المركزية أن "محاولة الخميني لحكم دولة شبه متطورة في أواخر القرن العشرين بمعايير ثيوقراطية تعود إلى القرن العاشر ستفشل في النهاية"، كما أوردت الوكالة في مذكرة عام 1979 إلى كارتر وكبار مستشاري الأمن القومي. وواجه الأميركيون صعوبة في تصديق فكرة أن عصابة الملالي التي كانت تقضي على صفوف البيروقراطية المحترفة، قادرة على إدارة دولة حديثة، واعتقد المسؤولون في واشنطن أن قوى اليسار الإيراني المتحالفة مع الاتحاد السوفياتي هم من سيستفيدون من عدم كفاءة الملالي، وبالتالي على الولايات المتحدة الإسراع في إسقاط النظام ووضع الفصائل الموالية لها في وضع يمكّنها من وراثة عباءة القيادة. بعد وقت قصير من الاستيلاء على السفارة، أنشأ كارتر لجنة مشتركة بين الوكالات للإشراف على العمليات السرية ضد النظام الجديد في طهران، ووضعها تحت إشراف ديفيد آرون، نائب مستشار الأمن القومي. وأشار المسؤولون إلى المجموعة بعدد من الأسماء المختلفة، بما في ذلك "المجموعة السوداء" و "الغرفة السوداء". فيما تظل الخطط التشغيلية الدقيقة سرية، لكن يبدو أنه بتوجيه من اللجنة، حاولت وكالة الاستخبارات المركزية تنظيم قوة متماسكة من مجموعات معارضة إيرانية خارجية وحاولت مساعدة المنشقين في إيران، وجندت قوى إقليمية للمساعدة في تقويض النظام الديني الناشئ. لكن قبل أن تتمكن الحملة من إحراز تقدم كبير، كانت إدارة كارتر قد انتهت، حيث هزمه ريغان في انتخابات 1980، إذ كان موقفه ضعيفاً بسبب الاقتصاد والتصورات المنتشرة عنه كقائد يفتقر إلى الإرادة. ولا يزال من غير الواضح ما إن كان ريغان قد أصر على البرنامج السري لتغيير النظام الإيراني أم لا، وعندما تبدأ عملية رفع السرية عن وثائق إدارة ريغان في السنوات المقبلة سنعرف المزيد.
هل يمكن تغيير النظام؟
لقد فشل كارتر في فهم أن الثورة الشعبوية المصمّمة على القضاء على كل من يقف في طريقها، لا يمكن إحباطها من خلال الانقلابات أو مكائد وكالة الاستخبارات المركزية. ربما كانت الجمهورية الإسلامية في مهدها، لكن الثورة في ذلك الوقت كانت تحظى بدعم الغالبية العظمى من الإيرانيين. الآن، بعد أربعة عقود، فقد النظام الإسلامي الكثير من شرعيته، وتلاشى إيمان الجماهير الثوري منذ فترة طويلة. واستُنفدت الدولة الثيوقراطية -الغارقة في الفساد والحصار- وراء أيديولوجية لم يعد يؤمن بها سوى القليل. ومع ذلك، يجب ألا تبالغ واشنطن في تقدير قدرتها على تحديد النتائج في طهران، مع أنها لا تزال تعرفها بالأسس ذاتها التي عرفتها بها في القرن الماضي، شعب يسعى إلى الحرية يواجه حكاماً مستبدين مصمّمين على الحفاظ على سلطتهم. في هذا السياق، سيكون لواشنطن دور تقوم به، وإن كان متواضعاً. وفي حال نجح الشعب الإيراني، فمن المحتمل أن يفعل ذلك بطريقة تربك جيلاً آخر من الأميركيين الذين اعتقدوا، مثل كارتر، أنهم يفهمون طهران بشكل أفضل من الإيرانيين.