ذات يوم في مجرى تعليق صحافي أدلت به الكاتبة الفرنسية البلجيكية مرغريت يورسنار يتعلق بروايتها الرائعة "مذكرات هادريان"، قالت، "هناك فقط وجه تاريخي واحد قد يغريني بمقدار ما أغرتني شخصية الإمبراطور الروماني (هادريان) هو عمر الخيام، الشاعر والفلكي". وحدث لهذا التعليق أن وقع بالصدفة في يدي الكاتب اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف، فعلق في ذهنه فيما كان يشتغل في روايته التاريخية الأولى "ليون الأفريقي"، وظل يشغل باله لا يبارحه حتى انتهى من كتابة الرواية التي كان يشتغل فيها وبدأ يفكر بالرواية التالية التي سوف يكتبها حتى قبل نشر "ليون الأفريقي" وتحقيقها النجاح الهائل الذي نعرفه.
الشاعر والسياسي والثائر
ولما وجد معلوف شخصية الخيام تلح عليه، لم يتردد طويلاً، بل انطلق يبحث عن كل ما كتبه الخيام وكتب عنه، مشدداً بخاصة على رباعياته التي كانت قد ترجمت إلى عدد كبير من اللغات بل غنت أم كلثوم بعضها كما نعرف من تلحين رياض السنباطي وتعريب أحمد رامي. ولأشد ما كانت مفاجأة معلوف كبيرة حين "اكتشف" أن صاحب الرباعيات عاش بين القرنين الحادي والثاني عشر، واشتهر خلال حياته كعالم فلك وفيلسوف ورياضي، والأهم من ذلك أنه عاش تقريباً في الحقبة نفسها التي شهدت ظهور وسطوة شخصيتين تاريخيتين أخريين لا تقلان عن الشاعر أهمية، الوزير نظام الملك، وحسن الصباح زعيم طائفة "الحشاشين" الإسماعيلية التي كانت تعد إرهابية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقول معلوف، إنه عندما اكتشف لاحقاً رواية تقول إن الثلاثة كانوا يعرفون بعضهم بعضاً، بل أصدقاء، في خبر إضافي جذاب حتى دون أن يكون مؤكداً، لم يعد للتردد من سبيل إليه: ستكون صحبة هؤلاء الثلاثة موضوع روايته التاريخية التالية التي سيكون عنوانها "سمرقند" على اسم المدينة التي كانت المكان الرئيس الذي التقوا فيه.
أشهر للبحث وومضة لاتخاذ القرار
ولئن كان هذا العمل البحثي قد استغرق من أمين معلوف أشهراً طويلة وعملاً مضنياً، فإن فكرة ربط ذلك الماضي الذي يكاد يبدو أسطورياً بالحاضر الذي يعيشه الكاتب ويتحرك فيه، ناهيك بأنه يحرك فيه مواضيعه بحيث لا تعود تاريخية تُقرأ لمتعة القراءة، بل تطرح على الماضي أسئلة الحاضر وعلى الحاضر معضلات الماضي، كما فعل في "ليون الأفريقي" وسيفعل لاحقاً في معظم رواياته. ففي نهاية الأمر لا شك أن أمين معلوف، كاتب مهموم بالحاضر والتلاقي بين الحضارات وبالإكتفاء مما هو تراث بما يدور من حول موقع الإنسان الراهن من التراث والتاريخ.
تلك الفكرة كانت أكثر سهولة وأسرع في الورود إلى ذهنه بكثير: فالكاتب لن يشتغل هنا على تقديم سيرة للخيام ولا حتى سيرة مثلثة له ولنظام الملك والصباح، بل سيدنو من لقاء هذا الثلاثي والمدينة التي احتضنته بشكل "تخييلي – تاريخي" يتخذ شكل تنقلات مكوكية بين الماضي والحاضر، بالتالي بين السلطة والثورة، وبين الشرق والغرب فبين العقل والقلب في نص يحاذي رحلة السفينة تايتانك ما يسمح للخيام بـالاختلاط بالسياح الأميركيين مرة، وبحشاشي الصباح الانتحاريين مرات، ثم بإصلاحيي الدولة السلجوقية في تقاطع مع ثوار تبريز في فارس القرن التاسع عشر. ناهيك عن لقاءاته مع تجار البازار ورجال المخابرات الأوروبيين والأميركيين بجنود القوقاز. وكل ذلك في نص "بيكاري" دائري يتحرك منطلقاً من إحدى زوايا الفينة العملاقة الغارقة إلى إسطنبول فلندن وإلى سمرقند بالتالي في حركة لا تهدأ. حركة تنتهي، وتماماً كما بدأت، مع أشخاص جالسين بكل هدوء وصفاء يتأملون الحياة ومعناها والأحداث ودلالاتها متفرسين في أحكامها وحكمتها.
تنقل بين زمنين متباعدين
من اللافت هنا أن "سمرقند" تتحرك بين محورين تاريخيين لا غموض فيهما، محور الحقبة التي كتب فيها الخيام أشعاره التي ستخبو طويلاً قبل أن تستيقظ في المحور التالي الأكثر حداثة بكثير، ومحور الحقبة التي اكتشف فيها الغرب، والعالم كله بالتالي، تلك الأشعار التي أحدثت قلبة مدهشة في الذهنيات وأعادت الاعتبار إلى تاريخ وثقافة كانا منسيين، ولكن ما يجمع المحورين مخطوطة تفترض الحكاية هنا أن عمر الخيام قد كتبها خلال حياته بادئاً تدوين سطورها الأولى في مدينة سمرقند تحديداً، ما جعل من المنطقي لها أن تحمل منذ البداية عنوان "مخطوطة سمرقند". فماذا في هذه المخطوطة؟ بكل بساطة تلك الرباعيات التي كان الخيام يدونها يوماً بعد يوم. وتفيدنا رواية معلوف أن تلك المخطوطة لم تغب ويطوها النسيان، بل اختفت في الحقيقة إبان الغزو التتاري حين احتل الغزاة المدينة، لتعود إلى الظهور بعد ذلك بما لا يقل عن سبعة قرون أي في القرن التاسع عشر.
إذاً، انطلاقاً من "لعبة العثور" على هذه المخطوطة التي تجمع بين شعر الخيام وحياته التاريخية، بنى أمين معلوف روايته. هو الذي يرى أن كل ما كنا نعرفه عن حياة الخيام كان من شأنه أن يظل "أسطورياً" لولا "العثور" على المخطوطة. بل إن الأهم من هذا ما يفترض في الرواية من أن "رباعيات الخيام" الحقيقية نفسها ستنكشف في المخطوطة بقلم شاعرها بعدما كانت قبل المخطوطة قد نسجت من عدد كبير من الأساطير في إضافات واجتزاءات معظمها لا يمت إلى أشعار الخيام الحقيقية بصلة.
رحلتان متكاملتان
لكننا قبل أن نغرق في هذا البعد التخييلي لنعتبره حقيقة تاريخية، ويكاد يكون كذلك على أية حال، لا بد لنا من أن نوافق معلوف حين يفيدنا بأن المخطوطة ليست في نهاية الأمر موضوع الرواية بل هي منطلقها لا أكثر. "ففي المرحلة الأولى من الرواية، يقول معلوف لكاتب هذه السطور في حوار بينهما يعود الى زمن صدور الرواية بالفرنسية أول الأمر عام 1988، هناك طبعاً النص الروائي المتخيل نفسه، ولكن بعد ذلك هناك في المرحلة الثانية، الرحلة وتحديداً الرحلة إلى الشرق وفي زوايا الشرق وصولاً إلى سمرقند وأصفهان وإسطنبول. ثم هناك الرحلة في الزمان حيث التنقل بين العصر السلجوقي والعصور الحديثة". ولكن يفرض هنا سؤال أساس نفسه، إذا كانت الرحلة في الزمان تنبني على وقائع تم دمجها والاشتغال عليها، هل يمكننا أن نقول إن المرحلة الأولى الروائية لا سيما منها ما هو متعلق بالتزامن والتلاقي بين الشاعر والسياسي والإرهابي، حقيقي تاريخياً بصرف النظر عن التفاصيل الحدثية الناجمة من ذلك التزامن والتلاقي؟
رسالة الشرق إلى الغرب
تاريخياً هناك وقائع وحقائق تؤكد ذلك نقلها مؤرخون وتحدث عنها فيتز جيرالد الذي كان أول من ترجم "الرباعيات" إلى الإنجليزية وعرّف قراء هذه اللغة بالخيام، ونقلت عنه. ولكن معلوف يؤكد أن نصه الروائي يستضيء فقط بتلك المدونات التاريخية، لكنه يبني عليها من خياله الخاص بناء روائياً شاملاً يفترض قيام صداقة بين الثلاثة وتأثر وتأثير، كان له فعله في حياة وعمل كل واحد منهم. كما ساده تواطؤ وساعات فرقة ونزاع بينهم. هم الذين يؤكد معلوف، أن ثمة واقعاً تاريخياً لا لبس فيه يقول إنهم ثلاثتهم وجدوا معاً، وكل منهم لأسبابه الخاصة في مدينة أصفهان عام 1075 تحديداً، أي العام المحوري في الجانب الروائي من نص"سمرقند". بل إن معلوف يذهب إلى أبعد من ذلك حين يروي كيف أن صداماً عنيفاً كان لا بد له أن ينشب بين نظام الملك، رجل البناء والدولة وحسن الصباح رجل الهدم والعنف في ذلك العام تحديداً، وأن الخيام اعتزل الاثنين وغرق حزيناً يائساً في خمره وشعره وتأملاته عاجزاً عن إصلاح الأمر بين صديقيه إذ تحولا إلى عدوين! بيد أن معلوف ينبهنا في نهاية الأمر إلى أن فشل الخيام في منع الصدام بين رفيقيه لا يعني أبداً أن حياته هو كانت فاشلة، "فالخيام تمكن من خلال الشعر الذي أنتجه أن يوجه إلى الغرب بعد 700 سنة من وفاته رسالة كانت من أهم رسائل الشرق إلى الغرب: رسالة حياة وحرية وحب".