عاود التوتر الأمني والعسكري على خطوط التماس بين فصائل موالية لتركيا، والإدارة الذاتية الكردية إلى الواجهة، بعد أن حلت قذائف الهاون كلغة وحيدة لإيصال رسائل بين كلا الطرفين المتنازعين، خلقت توتراً في قرى شمال غربي مدينة منبج وتل رفعت ومارع.
هيستريا الرسائل النارية
ومن اللافت، وفق سكان مناطق استهدفها القصف، ما يخيم من أجواء مشحونة وتأهب خوفاً من أي تطور عسكري جديد، أو استهداف عسكري تركي مماثل، إذ ترجح أوساط ذات صلة أن يكون أكثر اتساعاً بعد أن طال القصف التركي قرى مأهولة بالسكان، وبقصف أشبه بـ"الهستيري"، بحسب وصفهم.
وذكر مواطنون محليون أن الصواريخ التركية أخذت بالتساقط لمدة ساعة ونصف الساعة، وبشكل متواصل، فاقت ما يقارب 40 قذيفة هاون، سقطت على المدنيين في مناطق صيادة والدندنية وأم عدسة، مصدرها قاعدة تركية في قريتي الكربجلي والياشلي. الاستهداف التركي لم يتوقف عن إرسال قذائف الهاون، حملت رسائل حول "القدرات التركية"، واستخدمت راجمات الصواريخ لتدك قرى تل رفعت وكفر نايا والشيخ عيسى، وغيرها، في حين يرى متابعون أن التوتر التركي جاء كرد فعل بعد استهداف روسي لمواقع تكرير نفط على الأراضي السورية، تقع تحت نفوذ الجيش التركي.
ولم تعلق تركيا على الهجوم وترفض دائما اتهامها باستهداف مدنيين في مواجهاتها مع المسلحين الأكراد الذين تصفهم بـ "الإرهابيين" وتعتبر أنهم يشكلون امتددا لحزب العمال الكردستاني (ب ك ك).
سوق المحروقات
وإزاء ذلك، لا يمكن الفصل بين قصف مناطق تخضع للإدارة الذاتية الكردية وبين استهداف حراقات تكرير النفط في مناطق تتبع النفوذ التركي "الحمران وترحين" في ريف حلب الشمالي بصواريخ أرض – أرض، مصدرها بوارج البحرية الروسية قبالة السواحل السورية.
هذا الاستهداف لم يكن الأول من نوعه، بل سبقه في يناير (كانون الثاني) الماضي ضربات جوية عبر طائرات مسيرة، لكن الضربة الأخيرة كانت الأقسى من نوعها، إذ أودت بحياة أربعة أشخاص وإصابة 24 جريحاً، بعدما خلف القصف أضراراً مادية كبيرة نتيجة الحرائق التي التهمت شاحنات النفط المتجمعة بالمكان. ويعد مراقبون أن الغضب التركي على القرى المحاذية، والقريبة من خطوط التماس، والقريبة من مدفعية درع الفرات المدعومة تركياً، جاء كرد فعل عما سببه القصف الروسي الأخير على سوق المحروقات "ليوصل رسالة للأكراد أنكم لستم في مأمن أيضاً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الكرة النفطية
في المقابل، ردت قوات سوريا الديمقراطية على مصادر النيران، في حين تعيش دمشق حالة اختناقات ونقص في الوقود والمواد المحركة للطاقة، وسط وعود روسية بدعم البلاد بالقمح والنفط عبر اتفاق بين الدولتين، ريثما تعيد القوات النظامية سيطرتها على شمال شرقي البلاد، أغنى المناطق النفطية، والمخزون الأكبر من آبار الغاز والبترول.
من جهتها، تعيش أنقرة أسوأ مرحلة في علاقتها مع واشنطن، ويعزو قيادي في قوات "قسد" ذلك إلى جملة من العوامل، أهمها تجاهل إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن العلاقة مع إسطنبول.
وأمام هذا التصعيد، يتوقع مراقبون أن صبر أنقرة شارف على النفاد إبان التمدد الكردي الحاصل على حدودها الجنوبية، والأخذ بالاتساع، خصوصاً أن سياسة الرئيس بايدن تقترب من دعم الأكراد.
حقوق الإنسان وكسب الود الأميركي
مسألة احتضان البيت الأبيض للأكراد يشكل مصدر قلق للرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ما جعل الاشتباكات بين فصائل درع الفرات المدعومة تركياً وقوات سوريا الديمقراطية في مستوى منخفض جداً. كما عاشت فترة هدوء متقطع خلال الفترة السابقة التي تلت انتخابات الرئاسة الأميركية، وبردت معها سخونة الحملة العسكرية تجاه عين عيسى التابعة إدارياً لتل أبيض، ريف الرقة الذي يسيطر عليه "قسد"، وأحد أبرز معاقلها.
من جهتها، تسعى أنقرة إلى كسب الود الأميركي فيما يتعلق بحقوق الإنسان بعد تلميح واشنطن لذلك، ما دفع الحكومة التركية لإطلاق خطوات عمل هدفها رفع معايير حقوق الإنسان في البلاد، تتضمن أحد عشر مبدأً أساسياً، وسط مشاركة مجتمعية لصياغته، الهدف منه ظهور البلاد بموقف مدافع عن حقوق الإنسان بعد انتقادات دول أوروبية وواشنطن للممارسات التركية.
ومع استياء تركيا من دعم واشنطن للمقاتلين الأكراد، باعتبار أنها تصف حزب "العمال الكردستاني" بـ"المنظمة الإرهابية"، استدعت السفير الأميركي في أنقرة. وقال الرئيس التركي في مستهل كلمته أمام أعضاء حزبه "العدالة والتنمية"، متوجهاً للولايات المتحدة: "من المفترض أن تقفوا ضد حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب، من الواضح أنكم تدعمونهم، وتقفون وراءهم".
أميركا نقطة التوازن
وفي غضون ذلك، يمثل حضور الولايات المتحدة الأثر الكبير لدى الأكراد، بل ويؤمن حماية لهم، كما يعولون عليه لعودة الاستقرار السياسي في المنطقة، ويشكل بالتالي نقطة توازن، حسب وصف المختص في الشأن الكردي، جوان اليوسف، الذي قال "أميركا نقطة التوازن الحقيقية في الملف السوري، وإذا غابت يعني أن الكفة ستذهب باتجاه روسيا أو حلفاء لها، أو حتى تركيا أو إيران ويقوي نفوذ طهران في المنطقة، والتي دائماً تسعى الولايات المتحدة لإضعافها".
في هذا السياق، أدخل الجانب التركي مطلع الشهر الحالي رتلاً عسكرياً (20) عربة وآليات محملة بالمعدات العسكرية واللوجستية، دخلت عبر معبر "كفر لوسين" الحدودي شمال إدلب متوجهة نحو نقاط المراقبة المنتشرة في المنطقة التي يطلق عليها "بوتين – أردوغان" في شمال غربي البلاد.
وقدر المرصد السوري لحقوق الإنسان عدد الآليات التي دخلت الأراضي السورية بنحو 8335 بمختلف الآليات العسكرية مع وجود عشرة آلاف جندي تركي، في حين ترنو الأنظار إلى تفاهمات دولية لم تكتمل لكثرة التداخلات ووجود اللاعبين الدوليين في أراضٍ شمال شرقي سوريا تتضارب معها مصالح بلدانهم.
جس نبض
من جهته، يعتقد الباحث في الشأن السياسي التركي فراس رضوان أوغلو، أن القصف المتبادل يمثل جس نبض بين الفصائل المتصارعة المعارضة والأكراد، واعتبر أن السجال غير المباشر بين تركيا والولايات المتحدة الأميركية على الأراضي السورية، مرتبط نوعاً ما بالسجالات المتتالية بين أميركا وإيران، بما فيها الحاصلة على الأراضي العراقية أيضاً.
وفي ما يخص تعاطي الإدارة الأميركية الجديدة مع الأكراد وفرضية تعزيز موقعهم، قال "لهم موقع بارز ومهم في المرحلة المقبلة، لاسيما أن واشنطن تدعمهم وبالتالي هم جزء من المجتمع السوري، لكن كل من ورد اسمه بلوائح الإرهاب أو لا يحمل الجنسية السورية، مع وجود قيادات بارزة تنتمي للجنسية التركية، سيكونون محط خلاف ضمن تفاهمات روسية - أميركية – تركية مقبلة".