قررت الحكومة الاتحادية في ألمانيا إعادة افتتاح المكتبات، ولكن مع أخذ الإجراءات الاحترازية بعين الاعتبار لمنع تفاقم الإصابات بفيروس "كوفيد 19". ومنها تحديد عدد الأشخاص المسموح لهم بالتواجد في وقت واحد ضمن المكتبة بحسب مساحتها، وكذلك اتباع مبدأ التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات الطبية حصراً. هذا القرار جاء مع ظهور أرقام من مركز "ميديا" المختص بتنظيم البيانات والأرقام الخاصة بتجارة التجزئة في ألمانيا، وهي تعلن انتعاش مبيعات الكتب في ألمانيا خلال شهر فبراير (شباط) المنصرم. بينما كانت الأرقام منخفضة في شهر يناير (كانون الثاني) الذي سبقه.
وتجارة الكتب في ألمانيا، أو في الدول الناطقة بالألمانية وهي ألمانيا والنمسا وسويسرا ولوكسمبورغ، تشكل قطاعاً لا يُستهان به ضمن تجارة التجزئة، فهي تستحوذ على نسبة الربع من إجمالي مبيعات تجارة التجزئة. فلو أخذنا مبيعات الكتب، المقروءة منها والمسموعة، في عام 2019، وهو العام السابق لجائحة كورونا، لوجدنا أن أرقام المبيعات وصلت إلى مليار وثلاثمئة مليون يورو.
موسم بيع الكتاب
الوقت المميز لتجارة الكتب يكون عادة في معارض الكتب، لعقد الصفقات، وفي فترة أعياد الميلاد من كل عام، وهي الفترة التي تمتد من بداية شهر ديسمبر (كانون الأول) من كل عام حتى يوم 24 منه، بحيث تشكل نسبة المبيعات في هذين الأسبوعين 30 في المئة من إجمالي المبيعات خلال العام كله.
ودور النشر في ألمانيا تعتمد بشكل رئيس على أمسيات ترويج الكتب وقراءات المؤلفين، ونسبة كبيرة من أرباحها تحققها وفق هذا النظام. والمؤلف في ألمانيا لا يعتمد فقط على نسبة مبيعات كتبه، وهي قد تكون جيدة في كل الأحوال، ولكنه يعتمد كذلك على أمسيات ترويج كتابه في عشرات أو مئات مراكز القراءة. فهناك عرف ألماني يجعل أمسية المؤلف لترويج كتاب له مأجورة، ويتقاضى الكاتب عن كل قراءة تعويضاً يتراوح بين 300 و2000 يورو بحسب أهمية الكاتب أو رواجه لدى الجمهور.
هذا يعني أن إلغاء الأمسيات خلال العام 2020 المنصرم، تسبب بكوارث وخسارات غير قليلة للمؤلفين قبل دور النشر. وهناك كاتب معروف ألغيت 100 من أمسياته في الدول الناطقة بالألمانية بسبب فيروس كورونا وإغلاق المراكز والمكتبات الأدبية، وهو كان يتقاضى عن كل أمسية مبلغ ألفي يورو، وهذا يعني أنه فقد 200 ألف يورو كان سيحصل عليها من دون حساب ما سيحققه كتابه من مبيعات وأرباح، بخاصة أن هذه الأمسيات تسهم في بيع الكتب أكثر، بالتالي تزيد مما كان سيعود عليه وعلى دار النشر.
هذه الظاهرة قديمة في سوق الكتاب الألماني، وتعد ميزة له، وتساعد دور النشر كذلك، من خلال التواصل المباشر بين مؤلف الكتاب وقرائه، والكاريزما التي يمتلكها واختياراته للمقاطع التي سيقرأها من الكتاب، على زيادة عدد النسخ التي تبيعه من الكتاب. وهذا يعني الجمهور القارئ، من جهة أخرى، حيث يمكن للقارئ أن يتواصل مباشرة مع كاتبه، ويحصل منه على توقيع شخصي. وهناك من القراء من يشتري أكثر من نسخة مع توقيع الكاتب الشخصي، ليُهديها لأصدقائه ومعارفه في مناسبات مختلفة.
دعم المكتبات
في ألمانيا، وكثير من الدول الأوروبية، هناك دعم كبير للكتاب الذي يصدر مقروءاً ومسموعاً، وسعر الكتاب بنسخته الإلكترونية هو السعر ذاته، أو أقل بقليل، من سعره ورقياً. والقانون هنا يحمي حقوق المؤلفين ودور النشر، ولا يمكن تجاوز هذا القانون وهذه الحقوق بأي حال من الأحوال. وما يلفت هو دعم المكتبات العامة والخاصة في ألمانيا. فالمكتبات العامة التي توجد في كل مدينة للعموم، وكذلك تلك المكتبات العامة في المدارس والجامعات، تطلب أسبوعياً أو شهرياً عشرات الإصدارات الجديدة من الكتب لكي تكون متاحة مجاناً للقراءة والاستعارة لجمهورها.
وخلال جائحة كورونا في العام المنصرم أغلقت جميع المكتبات العامة في وجه جمهورها، إلا مع استثناءات قليلة في المدارس والجامعات ومراكز البحث مع الالتزام بقواعد صارمة. لكن موظفيها لم يجلسوا في بيوتهم، بل ظلوا يداومون داخل مكتباتهم المغلقة، ويطلبون مزيداً من الإصدارات الجديدة، لكي يكونوا جاهزين عند إعادة افتتاح المكتبات من جديد أمام زوارها ومرتاديها.
المكتبات الخاصة في ألمانيا ليست محلات تجارية فقط لبيع الكتب، بل هي مكتبات ثقافية وتنويرية وتجارية في وقت واحد. والمكتبات الخاصة في ألمانيا أغلقت أبوابها في وجه الجمهور، ولكنها عملت بطريقة الطلب من طريق الهاتف أو الإيميل، لتقوم المكتبة بعد ذلك بإيصال الكتب التي طلبها الزبون حتى باب بيته مع فاتورة بقيمتها، ليقوم الزبون بتحويل المبلغ إلكترونياً إلى حساب المكتبة البنكي.
نصائح للقراء
ومن عادة الألمان أن يكون في كل مكتبة شخص يُدعى "الناصح"، وهو الذي ينصح القارئ باقتناء كتاب معين. كما أن الشخص إذا أراد أن يفتتح مكتبة عليه الدراسة لثلاث سنوات، عملياً في إحدى المكتبات ونظرياً في معهد خاص بذلك. وقد يكون هناك عدة ناصحين في مكتبة واحدة، فمنهم من يختص بكتب الأطفال واليافعين، وآخر بالروايات الخيالية، وآخر بالروايات والقصص، وآخر بالشعر، وآخر بالكتب غير الروائية، وآخر في كتب العلوم والتخصص.
قد يأتي شخص يسأل النصيحة عن كتاب يريد إهداءه لشخص ما بمناسبة عيد ميلاده على سبيل المثال، فقد لا يكون على اطلاع واسع في بلاد يصدر فيها كتاب جديد كل 5 دقائق. الناصح يسأل عن بعض المعلومات عن ذلك الشخص المُهدى له ومهنته وعمره وقراءاته السابقة. بعدها يقوم الناصح بعرض عدة كتب، سواء أكانت روايات أو كتب غير روائية، ويعطي نبذة مختصرة عن كل منها، حتى يقوم الشاري باقتناء الكتاب الذي يجده الأفضل للشخص الذي يريد إهداءه.
وهناك كثير من المكتبات الخاصة التي تعتمد في أرباحها على إقامة قراءات للمؤلفين داخل مكتباتها. وحضور تلك القراءات من الجمهور يكون مدفوعاً. وهنالك مكتبات تقدم قراءات لكتب كلاسيكية، لكي تعيد لفت نظر الأجيال الجديدة للأدب الكلاسيكي المحلي والعالمي. بل إن بعض المكتبات تقيم ورشاً للكتابة مجاناً للطلاب في المدارس الإعدادية والثانوية، وتتعاقد مع كاتبة أو كاتب لإدارة هذه الورشة وتعليم الطلاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الأعمال والنشاطات "التثقيفية والتنويرية" تأخذها حكومة الولاية والحكومة الاتحادية بعين الاعتبار عند منحها جوائزها لإحدى المكتبات. ففي ألمانيا توجد 16 ولاية، وتخصص كل ولاية جائزة لأفضل مكتبة في الولاية، وتبلغ قيمتها 5 آلاف يورو. كما أن الحكومة الاتحادية لديها جوائز لأفضل المكتبات في ألمانيا. ففي العام الماضي فازت ثلاث مكتبات بالجائزة الأولى لأفضل مكتبة في ألمانيا، ونالت كل منها مبلغ 25 ألف يورو، بينما نالت خمس مكتبات الجائزة الثانية، ولكل منها 10 آلاف يورو، ونالت عشر مكتبات الجائزة الثالثة مع 5 آلاف يورو لكل منها.
قيمة الجائزة هذه، هي لقطاع تجاري في النهاية، تعد دعماً كبيراً لأصحاب المكتبات في زيادة نشاطاتهم وزيادة أرباحهم، وفي ابتكار طرق جديدة لدعم القراءة والكتاب.
الصحة والقراءة
خلال العام المنصرم ارتفعت أصوات كثيرة للضغط على الحكومة الألمانية من أجل "إعادة فتح المكتبات العامة فوراً للجمهور"، وإلا فإن "الثقافة ستكون في خطر كبير"، ولأن الإنسان "سيفقد غذاءه الروحي" مع خطر فقدان صحته بسبب كورونا. هذه الانتقادات وصلت في إحدى مراحلها إلى إصدار بيان شديد اللهجة من نادي القلم الألماني يطالب فيه الحكومة الألمانية بفتح المكتبات العامة فوراً. ولكن سرعان ما تراجع عنه بحجة أن "الصحة الآن أهم من الكتب ومن الثقافة، فالإنسان هو ما تجب حمايته في النهاية". وبعد ذلك البيان والتراجع عنه صارت المؤسسات تنتظر الحكومة لتعلن موعد العودة المناسب لافتتاح المحال، بمختلف أنواعها، أمام الجمهور.
الأرقام المبشرة لارتفاع معدلات بيع الكتب في شهر فبراير المنصرم، بعد أرقام مبيعات منخفضة في شهر يناير، وقرار الحكومة الألمانية بإعادة فتح المكتبات، ستؤثر بشكل إيجابي كبير على معدلات البيع والنشر وإعادة الطباعة في الوقت ذاته، وكذلك على المؤلفين الذين فقدوا أمسياتهم وقراءاتهم ولقاءاتهم مع جمهورهم طوال عام كامل. وقد يزداد الأمل أكبر بعودة معرضي فرانكفورت ولايبزغ الدوليين للكتاب، بعد أن ألغيا العام الماضي، وتم الاكتفاء بهما إلكترونياً.