كان فيلماً وثائقياً ممتعاً، ذاك الذي حققه السينمائي فيليب داي، وعرضه عام 2017، ليقول إنه كان الفيلم الأصعب الذي حققه في مساره الفني، لكنه كان لا بد له أن يحققه، ولو إكراماً لذكرى مرور مئة عام على ظهور أول فيلم عن "كليوباترا"، وذكرى بطلته تيدا بارا، فاتنة بدايات القرن العشرين، ونجمة النجمات في العقود الأولى من القرن. والحقيقة أن هذا الفيلم، البالغ طوله ساعة ونصف الساعة، يزيد على مجمل الوقت الذي يستغرقه في أيامنا هذه عرض كل ما تبقى من نحو أربعين فيلماً مثلتها تيدا بارا خلال دزينة من الأعوام هي التي شهدت كل حضورها على الشاشة.
ضاعت كل أفلامها
وهنا، لكيلا يبدو كلامنا هذا لغزاً، نسارع إلى القول إن القسم الأكبر من أفلام تيدا بارا قد ضاع بما في ذلك فيلمها "كليوباترا"، الذي كان أول اقتباس سينمائي عن حياة ملكة مصر، التي كثيراً ما ألهمت الكتاب والسينمائيين بشكل خاص. ولا بد من إشارتين هنا قد لا تكون ثمة علاقة بينهما: أولاهما أن عنوان فيلم داي المتحدث عن "كليوباترا الضائعة" إنما يشير إلى ضياع فيلم "كليوباترا" الذي حقق عام 1917، ولم يبقَ منه سوى مقتطفات لا تشغل أكثر من عشرين ثانية؛ أما الإشارة الثانية فتتعلق باسم تيدا بارا نفسه، هي التي اختارت هذا الاسم بغية الإيحاء بانتماء عربي غرائبي، كما سنرى بعد سطور. أما فيلم فيليب داي الذي أنجز وعرض بعد أكثر من نصف قرن من رحيل تلك النجمة، فإن مخرجه اشتغل عليه بدأب انطلاقاً من تلك الثواني العشرين التي تمكن من العثور عليها لتتحول إلى فيلم من 87 دقيقة. فكيف حدث ذلك؟
التفاصيل التي تصنع فيلماً
ببساطة، انطلاقاً من جمع المخرج لعدد هائل من صور فوتوغرافية لتيدا ومقتطفات صحافية عنها وشهادات مصورة لنقاد وسينمائيين بعضهم اشتغل على سيرتها والبعض الآخر عرفها حقاً، ثم أضاف إلى ذلك، بعض الثواني المتبقية من أفلامها التي يخبرنا في الفيلم على أي حال أنها اختفت في حريق هوليوودي هائل، ولن يتبقى منها أي فيلم متكامل على الإطلاق. ومن تلك المواد صنع فيليب داي فيلماً متكاملاً يعيد إلى الحياة ليس فقط حكاية الملكة المصرية وحكاية الأفلام العديدة جداً التي حققت عنها، بل كذلك، وخاصة حكاية تيدا بارا، نفسها مذكراً إيانا بأن تلك التي كانت نجمة الإغراء الأولى في تاريخ السينما، كانت تحرص على ألا تمثل، صامتة دائماً على أي حال، إلا في أفلام يلوح من عناوينها على الأقل أنها تتسم بقدر من الجدية التي توحي من ناحية بأنها كانت تشارك غالباً في اختيار أدوارها، ومن ناحية ثانية تحرص على أن يكون عدد لا بأس به من تلك الأفلام مقتبساً إما عن كتاب كبار ("سوناتا كرويتزر" عام 1915، مثلاً، عن نص تولستوي وموسيقى بيتهوفن)، أو عن أعمال فنية راسخة (شخصية كارمن، عن فيلم بنفس العنوان مأخوذ عن أوبرا جورج بيزيه)، وإما عن أفلمة لأحداث حقيقية لا يندر أن تكون سياسية (كفيلم "قضية كليمنصو")، أو مسرحيات شكسبيرية ("روميو وجولييت" عن شكسبير الذي كان منه اقتباس فيلم "كليوباترا" الذي ينطلق فيلم فيليب داي من ضياعه ليضعنا على تماس مباشر مع حياة هذه الفنانة).
الفبركة التي بدأت بموت عربي
ويعيدنا هذا هنا إلى تيدا بارا على هامش فيلم فيليب داي. فلئن كان نجوم السينما قد أصبحوا خلال القرن العشرين أساطير معاصرة، لها جمهورها وحكاياتها وأسرارها، وأيضاً أساليب "فبركتها"، والاشتغال عليها، فإن تلك الظاهرة كانت لها بداية أساسية وواضحة حملت اسم "تيدا بارا" بالتحديد. وإذا كان هذا بالاسم يبدو لنا اليوم غريباً وغير ذي معنى في أي لغة من اللغات، فإن تفسيره ذو معنى، ويرتبط بشكل أساسي بجوهر أسطورة النجوم وسحرها. فتيدا بارا هو الاسم الذي أثرت أن تحمله، بدلاً عن اسمها الأصلي تيودوزيا غودمان تلك التي كانت الأولى بين نجوم السينما التي يصنع لها ومن حولها أسطورة مغرقة في الغرابة. ولقد نحت الاسم من الحروف التي تتألف منها كلمتان إنجليزيتان هما ARAB DEATH، أي الموت العربي، وكانت كل الصحف التي تتحدث عن نجمة العقد الأول من عقود تاريخ السينما التجارية هذه، تلح على المعنى الأصلي للاسم، لأن ذلك المعنى كان يعني الكثير لجمهور السينما في ذلك الحين. فالموت والعربي كلمتان كانتا ذات علاقة بسحر الرومانطيقية، وكانت تلك العلاقة وحدها كافية لتفعل الأعاجيب في أذهان وأحلام جمهور فن السينما آنذاك.
أسطورة على الشاشة وفي الحياة
من هنا، فإن أي تحليل لسحر النجوم، لا بد له أن يأخذ في اعتباره نقطة السحر تلك وفاعليتها، هذا إضافة إلى أن تيدا بارا نفسها كانت أول نجمة، في تاريخ السينما، بالمعنى الذي سيتحدث عنه مطولاً الفيلسوف الفرنسي إدغار موران في كتابه "نجوم السينما": النجمة التي تضع أسطورتها على الشاشة وخارجها، والتي تعيش علاقة تماهٍ مع الجمهور، وتبتدع لها أصولاً ليست لها ومآسي لا تعيشها في الحقيقة، وهو ما فعله، حقاً خبراء الدعاية في شركة "فوكس"، الشركة التي "اكتشفتها"، وأنتجت لها أول أفلامها.
فإذا كانت تيدا بارا في حقيقة أمرها ابنة لجندي، ها هي تتحول، في الأسطورة، إلى ابنة غير شرعية لرسام فرنسي، ولأم مصرية. وها هي الفتاة تصبح مولودة في لهيب الصحراء، حيث تلتقي طوال سنوات طفولتها أشخاصاً مقلقين مرعبين يطورون لديها تذوقها لفكرة الموت، وقدرتها على الإغواء، مسبغين عليها في الوقت نفسه نوعاً من الالتباس والغموض. وكل هذا لم يكن حقيقياً، ولم تكن حقيقية بالتالي الحكاية المعاكسة التي تقول إنها كانت من أم فرنسية وأب عربي. فالحقيقة التي ظل الجمهور عشرات السنين لا يعرفها هي أن هذه الممثلة الحسناء إنما ولدت في تشينشيناتي بولاية أوهايو عام 1890، لأب بولندي الأصل وأم أميركية خالصة، وعاشت طفولة عادية، حتى اكتشفها ذات يوم وكيل فنانين، أدخلها عالم السينما منذ 1915، وابتدأ يحولها إلى أسطورة كاذبة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الغرائبية الفاتنة
والحقيقة أن تلك الأسطورة اشتغلت بشكل جيد، حيث إن غرابة الحكاية والجو الغرائبي، وهوس تيدا المعلن بالموت، كل هذا تمكن من أن يثير حب وشغف الأميركيين الذكور بها. ومنذ تلك اللحظة لم تكف عن التمثيل في أدوار كانت غالباً ما تكون أدوار "المرأة التي تأكل قلوب الرجال أكلاً"، فتدمرهم، ثم تكون لها نهاية غير مستحبة.
وهكذا، خلال السنوات الخمس الأولى بين 1915 و1920، والتي كانت على أي حال كل عمرها السينمائي الحقيقي، نجد تيدا بارا تلعب على التوالي "كارمن"، و"الدوقة ديي باري"، و"كليوباترا"، و"غادة الكاميليا"، و"أزميرالدا"، و"جولييت"، و"صالومي"....، وحسبنا أن نذكر هذه الأدوار حتى ندرك عطر البخور ورائحة المسك والدموع في لحظات تدفع دفعاً في الفضيحة والموت، التي خيمت على علاقة تيدا بارا بأدوارها السينمائية.
تصرفات غريبة لفن جدي
صحيح أنه كان من حسن حظ تيدا بارا أن مثلت في أفلام حققها مخرجون متميزون، غير أنها أمام الصحافة كانت سرعان ما تتحول إلى شيء آخر تماماً: كانت تبدي تصرفات غريبة واستعراضية، ودائماً تبعاً لنصيحة رجال الإعلام والدعاية. وهكذا، مثلاً، في دارتها الفخمة في هوليوود، كان "يحلو" لها أن تتصور مع عمالقة زنوج ذوي عضلات مفتولة، أو في غرفة مليئة بالأفاعي المتحركة التي سيعرف الجمهور لاحقاً أنها كانت أفاع مدربة غير مؤذية على الإطلاق. أما من ناحية الأناقة فإن أشهر صورها كانت تلك التي ترتدي فيها معطفاً من الفرو الثمين وتجلس على مقدمة سيارة بيضاء لامعة فخمة، لكن الجمهور سرعان ما فقد حماسته، بعد أن تكاثرت النجمات وبدأ يكتشف زيف معظم الحكايات التي تروى عنها. وهكذا ما إن مضت خمس سنوات على بدء اشتغالها في السينما حتى كان الاهتمام بها قد بدأ يذوي. وما إن حلت السنوات الأخيرة من العقد التالي حتى كانت قد انتهت كنجمة، حتى وإن كانت قد قامت بمحاولتين لاستعادة مكانتها بعد ذلك، لكن المحاولتين أخفقتا. وعند حلول السينما الناطقة محل السينما الصامتة كانت تيدا بارا قد انتهت تماماً. ومع ذلك عاشت حتى السابع من أبريل (نيسان) 1955، تجتر ذكرياتها على هامش الحياة السينمائية الهوليوودية، وقد توفيت في ذلك اليوم، قبل زوجها المخرج تشارلز براين، بعامين. وبراين هو الرجل الوحيد الذي عاشت معه حقاً، وهو الذي أخرج بعض أفلام مجدها القديم.