نعرف جميعاً ما حل بمدينتي هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين من موت ودمار من جراء القنبلتين النوويتين اللتين رمتهما طائرتان أميركيتان عليهما عام 1945، لكن ماذا نعرف عما عاناه اليابانيون، قبل هذه المأساة، من القصف الأميركي اليومي بالطائرات لأبرز مدنهم، وخصوصاً طوكيو؟ القليل، وربما لا شيء. من هنا تأتي أهمية المجموعة القصصية للكاتب الياباني الكبير أكيرا يوشيمورا (1927 ــ 2006) "عشاء على متن سفينة"، التي صدرت ترجمتها الفرنسية حديثاً عن دار "أكت سود" الباريسية، ويعود صاحبها غالباً فيها إلى تلك المرحلة السوداء من تاريخ بلده لسرد ما شاهده واختبره من أهوال خلالها.
المجموعة تتضمن عشر قصص، لكن بما أن الراوي فيها هو شخص واحد، الكاتب، تمكن قراءتها أيضاً كقصة واحدة. ولكتابتها، لجأ يوشيمورا إلى نوع "شيشوسيستو" الأدبي الياباني الذي تتركز عملية السرد فيه على الحياة الداخلية لشخصية واحدة، غالباً ما تكون صنو الروائي أو القاص، وتأخذ طابع البوح أو الخرافة السيرذاتية (autofiction)، ما يحول النص المكتوب ضمن هذا النوع إلى مرآة للذات.
شعور بالذنب
خلال الحرب العالمية الثانية، كان يوشيمورا مراهقاً وفي حالة صحية هشة، ما جعله يفلت من التجنيد الإجباري ومن جحيم الجبهات، بخلاف بعض رفاقه في المدرسة. من هنا تلك السخرية من الذات أحياناً، وذلك الشعور العبثي بالذنب الكامن في قصصه، وأيضاً تلك النزعة الثابتة في جميع أعماله إلى استحضار ما عايشه أثناء الحرب: التنقل الثابت من مأوى إلى آخر، التوجه إلى القرى بحثاً عن مواد غذائية، فترة العمل في مصنع شقيقه بموازاة دراسته، وخصوصاً القصف الجوي اليومي الذي دمر طوكيو كلياً وحصد أرواح الأطفال والراشدين والعجزة فيها من دون تفرقة. باختصار، ذكريات يتعذر نسيانها أو تصريفها، وتكفي فرقعة ألعاب نارية أو مشهد مريض في مستشفى لإعادة إنعاشها وتأجيج آلامها.
لكن على على الرغم من مركزيتها، الحرب ليست الموضوع الوحيد لقصص يوشيمورا، بل يقارب فيها موضوعات أخرى، كالمرض والشيخوخة والكذب والخيانة والخجل وطقوس الحداد. ومع أن الراوي هو نفسه في جميعها، لكن المهارات الكتابية والسردية للكاتب والمقاربات المختلفة التي يعتمدها فيها تجعلنا نتلقى كل منها كسردية فريدة ومستقلة. قصص يتشابك فيها الماضي بالحاضر وتتقاطع الأحداث المروية وتتصادى، ويحضر راويها تارةً في حالة فعل، وتارةً في حالة تأمل وإصغاء، لكن دائماً في حالة مشاركة لذكريات ولحظات معاشة.
في قصة "السمكة الحمراء" التي تفتح المجموعة، يمر الراوي قرب متجر لبيع الحيوانات الداجنة فيدخله ويشتري سمكة حمراء وحوض كروي لها، ما يستحضر إلى ذهنه سنوات الحرب التي تحولت الأسماك الحمراء في طوكيو خلالها إلى طلاسم تحمي من يقتنيها من القصف. أما لماذا اختار أبناء وطنه هذا الكائن البحري البسيط كطلسمان، فـ"ربما لأنه يشكل في وهج حراشفه الحمراء نقيض واقع يومي توارت فيه الألوان".
وفي قصة "زيز اليابان"، يأتي الراوي لحضور دفن ابنة عمته، فيتذكر أن هذه المرأة فرت يوماً من القصف حاملةً طفلتها على ظهرها، ولم تلحظ إلا حين توقفت عن الركض أن طفلتها كانت قد توفيت مختنقة بدخان الحرائق. ولأن صرير الزيزان كان صاخباً في ذلك اليوم، باتت غير قادرة على سماعه في ما بعد. أما هو فيتساءل: "هل للبكاء على ضحايا الحرائق كانت أشجار الكرز تزهر والزيزان تغني؟".
أجواء قصصية
وفي قصة "دخان فحم"، يقص الراوي علينا واحدة من الرحلات التي اضطر إلى القيام بها وهو مراهق مع خمسة عمال من مصنع شقيقه، عند نهاية الحرب، إلى الريف المحاذي لطوكيو من أجل مقايضة ثياب عمل جديدة بأكياس أرز. ولأن هذه المقايضة كانت ممنوعة آنذاك، يكشف لنا كل الخطط التي اتبعوها لتجنب الوقوع في مكامن الشرطة. رحلة أشبه بملحمة في مغامراتها وتمنحنا فكرة دقيقة عما عاناه اليابانيون أثناء الحرب لسد جوعهم.
وفي القصة التي تختم المجموعة وتمنحها عنوانها، يتذكر الراوي، إثر تلبيته دعوى للعشاء في مطعم على متن سفينة تبحر في مياه نهر "سوميدا" داخل طوكيو، كيف كانت أنهر المدينة وقنواتها أثناء الحرب مليئة بالجثث، ثم كيف نظفت مياهها مباشرةً بعد الحرب لتوقف المصانع على ضفافها من رمي نفاياتها فيها بسبب دمارها أو عدم توفر المواد الأولية الضرورية لتشغيلها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي موضوع المرض، نقرأ في المجموعة قصة "العينة" التي يسرد الراوي فيها ظروف عملية "رأب الصدر" الجراحية التي خضع لها لمعالجة إصابته بمرض السل في الخمسينات، وكانت تقتضي ببتر عدة أضلع من صدر المريض. عملية مؤلمة للغاية نظراً إلى إجرائها آنذاك ببنج موضعي، وتستحضر إلى ذهن الراوي تلك الشابة التي خضعت لها مرتين وهو في المستشفى، فبتر الأطباء من صدرها 12 ضلعاً من دون أن تطلق صرخة ألم. نقرأ أيضاً قصة "الجدار الأبيض" التي تدور أحداثها داخل مكان مغلق في مستشفى يختلط فيه المرضى الذين يعانون أمراضاً خطيرة بمرضى، مثل الراوي، دخلوا لإجراء عملية جراحية بسيطة.
وفي قصص أخرى، مثل "مطلع الربيع" و"قريباً الخريف" و"مطر ربيعي"، يزور الراوي مرضى أو يشارك بمراسم دفن أقارب له توفوا جميعاً بمرض السرطان. زيارات ومراسم تشكل كماً من المناسبات لاستحضاره ذكريات مشتركة مع أفراد عائلته أو التحدث بأشياء بقيت مستورة على مدى عقود، أو بهشاشة الحياة، وعموماً، لوصف العبور السريع للزمن ونتائجه: تفكك الروابط مع المقربين سابقاً، حلول العزلة وزحف الشيخوخة ومعها المشاكل الصحية الملازمة لها.
وعلى الرغم من مضمونها القاتم، لا تندرج قصص يوشيمورا تحت شعار الخوف أو الموت. فإضافة إلى النظرة الشعرية التي يلقيها فيها على وطنه، وتمدها بسحر ونكهة خاصتين، نراه لا يبرع في فن قول المشاعر البشرية فحسب، بل أيضاً طاقة الإنسان الحيوية أمام المحتوم أو المحن. قول بلغة صورية أسرة تصبغها الذكريات والغرابة، وتبقى على مسافة من التفخيم الدرامي. لغة نادرة القوة والدقة تجعل من نصوصه مشاهد أو لوحات حية ومرئية. وفي حال أضفنا مهارته في الإمساك بأنفاسنا حتى خاتمة كل واحدة من قصصه، لفهمنا عمق وقعها على نفوسنا.