الدولة أعظم اختراع إنساني عبر التاريخ، وهو اختراع لم يتوقف عند لحظة الإنشاء، بل استمر في التطور والتحول في تفاعل دائم مع معطيات التاريخ وشروطه وتحولاته، الأمر الذي طرح على الفكر السياسي والفلسفي أسئلة إشكالية طاولت كينونة الدولة ومضمونها ونظام اشتغالها وسيادتها وشرعيتها وقوانينها وأزماتها. إلا أن هذه الأسئلة لم تحظَ، عدا استثناءات قليلة، بما تستحقه من اهتمام في الفكر العربي يتجاوز علم السياسة أو علم الاجتماع السياسي ليتناول الدولة من منظور فلسفي تاريخي يعرض كيفية تشكلها الحداثي، ويقارب مسائلها بنفس تنظيري، وضمن أفق تأليفي شامل.
في هذا الإطار الأيديولوجي توجه عبد الإله بلقزيز في كتابه "الدولة، الأصول الفلسفية" (منتدى المعارف 2020) إلى الدفاع عن الحاجة إلى الدولة في وجه من يزري بها وبأدواتها في تنمية الاجتماع الإنساني، منطلقاً من المقولة الحداثية المركزية التي ترى إلى الدولة بوصفها تكليفاً مجتمعياً بشرياً هدفه تحقيق المصالح العامة وتنظيم المنازعات بالتوافق والتسوية، والاعتراف بمصالح الجميع، كي لا تتحول إلى التعبير عن نفسها في صورة أفعال عنف، ما يتيح التطبيق السلس للقوانين من حيث هي التجسيد المباشر للإرادة العامة.
يرى المؤلف أن الفلاسفة تهجسوا بالدولة عبر التاريخ، وكان استيعابهم للحاجة إليها شديداً تطفح به نصوصهم. بعضهم اكتفى من التفكير بالدولة بالفهم والتحليل، وتلك كانت حالة أرسطو. وبعضهم انشغل بالتفكير بدولة افتراضية، دولة مثال يحكمها العقل، وتلك حال أفلاطون والفارابي، في حين انهمك آخرون بتغيير الدولة كما فعل ماركس.
التاريخ والواقع
وإذا كانت فلسفة السياسة تدين لأحد، فإنما تدين قطعاً لجد أعلى هو سقراط، فإليه يعود الفضل في إنزال الفلسفة من غربتها عن التاريخ المادي الإنساني إلى الأرض، إلى الواقع والإنسان والمجتمع. فمع سقراط ولد تقليد فلسفي جديد سيزدهر مع تلميذه أفلاطون، ومع أرسطو، قبل أن تطيحه الأفلاطونية المحدثة. تصور أفلاطون نموذجاً ذهنياً لنظام محكوم بالعقل قائم على المماثلة بين الدولة والفرد، وعلى أن حاكمية القوة العاقلة في الفرد ينبغي أن تناظرها حاكمية العقل في الدولة.
كان للفلسفة اليونانية آثار كبيرة في الفلسفة السياسية العربية على ما تشهد كتابات ابن سينا وابن رشد وابن باجة، وبلغ التأثير مداه مع الفارابي الذي صمم مدينته الفاضلة على مقاس أفلاطوني محض.
وقد استعادت الفلسفة الحديثة منذ القرن السادس عشر الصلة بالفلسفة السياسية اليونانية، فتنزلت المفاهيم الأرسطية منزلة الأدوات لبناء صرح فلسفي جديد. وكان أن امتدت حركات الإصلاح إلى الفلسفة السياسية، فأعيد النظر إلى الدولة بوصفها اصطناعاً إنسانياً محضاً، وإلى مركزية العقل في النشاط الإنساني والسياسي تحديداً. في هذا الإطار التاريخي طرح فلاسفة العقد الاجتماعي (هوبس، ولوك، ومونتسكيو، وروسو، وكانط) تصورهم للدولة الحديثة القائمة على تفاهم عمومي على نظام وضعي عقلي طبيعي، يصطنعه الناس لتلبية حاجاتهم، والحاكم فيها يحكم بموجب العقد القائم بينه وبينهم.
مفترضاً وجود حالة سابقة للدولة هي حالة الطبيعة، برر هوبس الحاجة إلى العقد الاجتماعي بمخاطر "حرب الجميع على الجميع"، وباستحالة الحفاظ على النوع البشري في الحالة تلك، ما يقتضي تهذيب الطبيعة الإنسانية العدوانية، وترويضها على العيش في كنف اجتماع إنساني.
الدولة هي الجوهر
هيغل رفض مقولة العقد الاجتماعي هذه، نافياً الأسبقية الأنطولوجية للأفراد على الدولة، فالدولة في رأيه هي الجوهر، لا الفرد، وهي كيان متعالٍ لا يتحدد بالمجتمع، بل المجتمع يتحدد به، وهكذا نسف هيغل أواليات فلسفة التعاقد ومفاهيمها المركزية: الفرد، والمصلحة، والحرية، والتوافق.
أما ماركس فقد انفصل فكرياً وإشكالياً عن هيغل والأنوار ليؤسس نظام المادية التاريخية، ويدعو إلى إلغاء التناقض بين الدولة والمجتمع، ليس باستقلال المجتمع عن الدولة كما يريد الأنواريون، ولا بإخضاع المجتمع للدولة كما يريد هيغل، بل من طريق تغيير نظام الملكية الذي يجعل من الدولة، دولة طبقة مسيطرة. طرائق التناول الفكري لمسائل الدولة والسلطة السياسية عند فلاسفة القرن العشرين والعقدين الأولين من هذا القرن، تختلف عن مثيلاتها لدى الفلاسفة المحدثين. فالفلسفة المعاصرة ولدت في حضن تحول معرفي كبير شهده القرن العشرين. لم يعد ممكناً التفكير في السياسة والدولة كما فكر فيها فلاسفة الأنوار، وبات لزاماً عليها الاستفادة من المعارف الجديدة والتزود من ثمراتها لإعادة بناء كيانها الفكري ومنافسة علوم اجتماعية أخرى كعلوم الاقتصاد والسياسة والقانون.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الفلاسفة المعاصرين من أصغى إلى التيار المتدفق للعلوم الاجتماعية، متجنباً الأسئلة التي طرحها فلاسفة العقد الاجتماعي: ماهية الدولة والفرد والمجتمع والحق والحرية، طارحاً دور النخب في الدولة وموقع البيروقراطية فيها، وأدوار الأيديولوجيا والعنف والجيش والقانون والحزب. ولعل ماكس فيبر أول من دشن النظر في الفكر المعاصر إلى مسألة الدولة بمنهج جديد وأدوات جديدة، حيث وضعنا أمام لحظة متقدمة من التفكير العلمي يختفي معها التفكير الافتراضي والمثالية الذهنية، ويغدو ممكناً إخضاع الدولة لتحليل واقعي لا يبحث في ما وراء كيانها، أو في غايات لها تقع خارجها.
السؤال الفلسفي عن ماهية الدولة وغايتها سينتهي إذاً مع فيبر، فالدولة عنده ليست شيئاً غير ما تقوم به، غير الوظائف التي تنهض بها، وتضطلع به أجهزتها. عليه، ما من بحث مفيد في الدولة إلا ذاك الذي ينصرف إلى دراسة أجهزتها وتحليل عمل ونظام اشتغال الأجهزة تلك.
هكذا، نرى أن أسئلة طرحتها الفلسفات السياسية السابقة، مثل المواطنة والحرية والعدالة والديمقراطية والعنف والثورة والمجتمع المدني، سيعاد طرحها ولكن في سياق تاريخي جديد وبمنظور جديد، كما بعدة اشتغال مفهومية جديدة لم تكن مألوفة، الأمر الذي يؤكد أن فلسفة السياسة ليست آيلة إلى انقراض، إلا أنها تستطيع البقاء إن هي جددت نفسها بالتغذي بموارد معرفية من خارجها.