ربما كانت الحكمة التي تقول: "إذا لم تكن لك خطة فأنت جزء من خطة الآخرين"، هي من الأدلة الكاشفة لطبيعة الأوضاع السياسية والجيوسياسية في شرق السودان، نظراً إلى أنه أصبح بامتياز أكثر نقاط الهشاشة والخطورة في الوقت ذاته، على الاستقرار من ناحية، وعلى مسار الانتفاضة السودانية من ناحية ثانية.
وكان واضحاً منذ انطلاق الحرب الأهلية في إثيوبيا في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، في ما سُمّي بعملية إنفاذ القانون في إقليم تيغراي (وهي حرب شاركت فيها قوات إريترية)، أن تداعيات هذه الحرب ستنعكس على المنطقة، لا سيما في السودان وفي دول أخرى. ومنذ أن أعاد الجيش السوداني انتشاره في المناطق (التي احتلتها إثيوبيا في منطقة الفشقة الحدودية في شرق السودان عام 1995) كنتيجة من نتائج تداعيات تلك الحرب، لا تزال حتى الآن احتمالات الحرب بين البلدين قائمة، وإن كان الوقت الراهن غير مناسب لكل منهما نتيجة للظروف الداخلية المعقدة التي يمران بها.
ثمة عناصر أخرى للتوتر تجعل من الاحتقان في المنطقة على خلفية هذه الحرب الأهلية في إثيوبيا قائماً، مثل سد النهضة، وكذلك الأوضاع في شرق السودان، حيث شهدت مدن عدة في ذلك الشرق موجات احتراب أهلي منذ عام 2019.
وما يزيد الوضع تعقيداً أن قوى سياسية في شرق السودان تعكس تجريباً غاية في الهشاشة من خلال حراكها السياسوي، الذي يعتبر امتداداً ضاراً لطريقة تعاطي السياسة عبر الاستثمار في مواقف الولاءات القبلية (إذ ظل نظام البشير يشتغل على تسييس القبائل لـ30 عاماً)، فأصبح شرق السودان عبر بعض أبرز قواه السياسوية التي تنشط على ذلك النمط القبائلي في ممارسة السياسة، ميداناً للّعب بالأوراق في السياسة الداخلية لأجنحة حكم المرحلة الانتقالية، لا سيما عبر المكون العسكري، الذي بدا واضحاً أن تحالفه الخفي مع المجلس الأعلى لنظارات البجا، جعل ممارسات سياسيي المجلس، في إيقاعها العام، تشتغل خارج مبادئ زمن الانتفاضة ورهاناتها ومتغيراتها، تلك المتغيرات التي فيما أصبحت واقعاً حقيقياً في مناطق وسط السودان وغربه، إلا أنها ظلت في شرق السودان خارجة عن دائرة تفكير أبرز لاعبي المجال السياسي الأهلي هناك.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونعتقد أن هذا الوضع من حيث هيئته تلك، عبر الفعل العشوائي لتعبيرات حراك القوى السياسية البارزة هناك، قد يؤشر إلى خطر كبير.
فمن ناحية، انعكست نتائج التهميش والإهمال اللذين ضربا شرق السودان، بآثارها على الخطاب الذي ظل يمارسه ويروّج قادة المجلس الأعلى لنظارات البجا بما يتضمنه من: انعزالية ورهان أهلي وإقصاء للآخرين وممارسة للسياسة من منظور قبلي، إلى جانب غياب أي حساسية حول مواقف شخصيات في المجلس كانت جزءًا من نظام البشير حتى سقوطه.
بطبيعة الحال، إن تجريباً سياسوياً هشاً كذلك الذي عبّر عنه خطاب المجلس الأعلى لنظارات البجا، الذي بدا بلا خطة، ولا رؤية كانت نتيجته، طوّر اليوم قناعة لدى كثيرين من صانعي القرار السياسي في المركز بافتقاد هذا المجلس للرؤية والخطط التي تعبّر عنها اشتغالات السياسة، وهو أمر سينعكس على طبيعة الاستقرار في شرق السودان. ومن ناحية ثانية، القادة الذين يمثلون هذا المجلس يراهنون على وعي قبلي خطير، وعي يضمر في داخله تحللاً من أي التزام بقيم المواطنة حيال قناعات أولئك القادة التي مفادها: بما أنهم قادة قبليون للبجا، فإنهم أصحاب الكلمة الأخيرة في اتخاذ القرار بعيداً من أي التزام يكترث لمفاهيم الدولة في الشراكة الوطنية وسيادة حكم القانون والدستور، ولهذا فإن ردود الفعل السلبية التي لقيها قادة هذا المجلس والمتعاطفون معه طوال اجتماعاتهم بصانعي القرار السياسي، ستنعكس آثارها في المواقف التي دائماً ما يجعلونها تعبيراً عن طبيعة استجابتهم في حال رفض مطالبهم (وهي في غالبيتها مطالب غير سياسية) أي التهديد باختطاف السلم الأهلي.
وإزاء هذا الموقف، تمثل الإعاقات أمام تنفيذ بنود مسار اتفاق شرق السودان، ميداناً لطريقة عمل واشتغال المجلس الأعلى لنظارات البجا، ما أدى في النهاية إلى توافق الجبهة الثورية على رؤية مشتركة ستقدّم إلى مجلس شركاء المرحلة الانتقالية، رؤية تؤكد على التزام تنفيذ بنود اتفاق جوبا كافة ومساراته بحذافيرها من دون أي إهدار أو تحريف. وكان في تصريح رئيس الجبهة الثورية الهادي إدريس بزيارة وفد الجبهة الثورية للسودان للتبشير بالسلام وتنوير الناس هناك بمخرجاته، بما فيها الضرورة لتنفيذ بنود مسار اتفاق شرق السودان، قد أثار انزعاجاً لكثيرين، لا سيما بعد أن برزت تصريحات هنا وهناك لبعض مؤيدي خط المجلس الأعلى لنظارات البجا عبر مقاطع فيديو بدا واضحاً فيها كيلهم التهم لقادة المرحلة الانتقالية.
ولا يمكن للمرء أن يحدس باحتمالات تضارب قرار التصعيد والتلويح بإعاقة موكب الجبهة الثورية، الذي سيزور شرق السودان قريباً بقيادة الهادي إدريس وقادة مسار شرق السودان، نظراً إلى المزايدات والتحديات التي ظلت تتكرر من قبل بعض الفاعلين في المجلس الأعلى لنظارات البجا ضد قادة مسار شرق السودان بالدخول إلى مدن تلك المنطقة، لكن في وجود قادة الجبهة الثورية في موكب الزيارة، ربما يختلف الأمر.
يخشى بعض السياسيين ومراقبو الأوضاع في شرق السودان حراكاً لأجندات خارجية من أجل استئناف صناعة الأزمة، لا سيما عبر استثمار خطاب الكراهية في شرق السودان بحق مكونات أهلية في الشرق، لا يزال ملفاً جاهزاً للتصعيد.
في تقديرنا أن هناك خيطاً غير مرئي يربط الأحداث في شرق السودان ومسار تعرجاتها بتداعيات الحرب الأهلية في إثيوبيا، وفي حال لم تنتبه القوى السياسية السودانية وصانعو القرار في الخرطوم لخطورة الأمر، فإن إمكانية حدوث التصعيد في شرق السودان حيال مفاعيل تنفيذ رؤية الجبهة الثورية المقدمة لمجلس الشركاء والقاضية بالتشديد على تنفيذ كل بنود اتفاق جوبا جملة واحدة، بما فيها اتفاق مسار الشرق، قد يؤدي إلى اشتباك أجندات مختلفة في شرق السودان، لكن هذه المرة وفي ضوء التداعيات المحتملة للحرب الأهلية الإثيوبية، سيكون الوضع خطيراً لجهة انفتاح الأوضاع على كل السيناريوهات هناك.
من المهم أن تتعقل كل القوى السياسية، وأن يدرك الناشطون السياسيون هناك أن احتمال حراك جديد للفتنة في ضوء تداعيات الحرب الأهلية الإثيوبية لن يكون كما كان قبلها، لأن خيوط تلك الحرب قد تضرب في أكثر من دولة نظراً إلى التحالفات التي أوجدتها تلك الحرب.
وقد كان لافتاً، أنه في اليوم ذاته الذي زار فيه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الخرطوم في السادس من مارس (آذار) الحالي، والتقى رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان، أن شهدت جوبا عاصمة دولة جنوب السودان زيارة مزدوجة لكل من الرئيس الإثيوبي آبي أحمد والإريتري أسياس أفورقي، وإذا لم يكن التزام في الزيارتين وحده هو دلالة من دلالات تداعيات تلك الحرب، فإن ما سترسمه الأيام المقبلة من سيناريوهات لا تخلو من أن تكون جزءًا من قرارات محتملة نتيجة لتلك الزيارتين.
وسيظل شرق السودان خاصرة جيوسياسية رخوة، ومكاناً استراتيجياً لرهانات قوى إقليمية متعددة، وما لم يتعقل سياسيو شرق السودان، فسيكون تحريك الملعب في الشرق في قلب تداعيات تلك الحرب.