مر اليوم الأخير للسنة العاشرة من الحرب السورية في 15 مارس (آذار) كأي واحد من أيام المأساة التي تعيشها بلاد الشام بعدما تحولت إلى دولة تتقاسم النفوذ على أرضها دول عدة تجري فيها تجارب على أسلحة، وتشكيلات عسكرية تابعة، على أنواعها، وصار قرابة نصف شعبها مشتتاً في بلاد النزوح أو المهجر، واستحال اقتصادها على الأرض وثرواتها عرضة للنهب من الخارج ومن النظام، الذي يخضع لعقوبات جراء الفظاعات التي ارتكبها ضد شعبه. فالحرب أسفرت عن نحو 380 ألف قتيل، بينما يؤكد أكثر من جهة سورية أن أرقام الضحايا أكثر بكثير، نظراً إلى أن عشرات الآلاف قضوا ولم يعلن عنهم، لا سيما في السجون.
أما المعارضة السورية، التي انطلقت من ثورة سلمية وباندفاع شبابي وشعبي أخذ زخماً قلّ نظيره، بسبب تصاعد احتجاجاتها، فقد تعرّضت لقمع وحشي، ولم تسنح لها الفرصة أن تبلور شخصيتها المستقلة. التصحر السياسي الذي سببه نظام حزب "البعث"، ثم حكم عائلة الأسد طوال 50 سنة، أخذ بعض مجموعات هذه المعارضة إلى ممارسات اختلطت فيها الفئوية مع الانزلاق إلى أجندات خارجية.
"مجمل شعبها في معسكر اعتقال"
ويقول الطبيب الفرنسي الذي عمل على الأرض فيها رافائيل بيتي لراديو "فرانس أنتر" إنه "يجب اعتبار سوريا بمجمل شعبها في معسكر اعتقال على مجمل مساحتها"، وهو يحذّر من "المجاعة والمأساة العميقة جداً"، ويدعو إلى "فتح كل الممرات الإنسانية". استطراداً، تطرقت دراسة لـ"المجلس النرويجي للاجئين" إلى "عقد آخر مقبل" من التهجير ونزوح الملايين في حال استمرت أزمة سوريا...
في اليوم التالي للذكرى العاشرة، أي في 16 مارس، استؤنفت الأحاديث ذاتها عن تلك الحرب وفصولها ونتائجها الكارثية التي قضت على دور سوريا المحوري في المنطقة، وحوّلتها إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها الأوروبيين وإسرائيل من جهة، وروسيا من جهة ثانية، ومعها إيران وتركيا اللتين تتنافسان بشدة، بحيث تتقاطع مصالح بعض الحلفاء، مع خصوم الحليف أحياناً. لكن النتيجة أن المجتمع الدولي يترك سوريا لمصيرها القاتم منذ 10 سنوات ولا يبدو أن هناك توافقاً منتظراً حول إنهاء حربها في المستقبل القريب.
البيانات ذاتها لكن المحاكم تتحرك ضد النظام
في 15 مارس من كل عام، اعتادت دول حليفة مثل أميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا أن تصدر بياناً مشتركاً حول الحرب السورية تشدد فيه على وجوب الحل السياسي وفقاً للقرار الدولي الرقم 2254، وتحمّل نظام بشار الأسد مسؤولية استمرار الحرب والمآسي التي تسببت بها ارتكاباته...
هذه السنة، أضيفت إيطاليا إلى الدول الأربع وصدر البيان المشترك الأوروبي الأميركي ليؤكد أن "الأسد وداعميه يتحمّلون مسؤولية سنوات الحرب والمعاناة الإنسانية التي عاشها الشعب السوري خلال السنوات العشر الماضية".
ودعا البيان نظام الأسد إلى "الانخراط بجدّية في العملية السياسية، وأن يسمح للمساعدات الإنسانية بالوصول إلى المحتاجين عبر جميع الطرق". وأكد أن "الإفلات من العقاب أمر غير مقبول في سوريا، وستتم مواصلة الضغط من أجل المساءلة عن الجرائم الأكثر خطورة".
الجديد في بيان هذه السنة أنه رحّب "بالجهود المستمرة التي تبذلها المحاكم للتحقيق في الجرائم الواقعة ضمن اختصاصها والمقاضاة عليها والمرتكبة في سوريا". فهذا الترحيب يأتي بعد ازدياد تولّي محاكم ومراجع قضائية أوروبية، على امتداد العام المنصرم، عرض أهوال ارتكابات النظام ضد السوريين المعتقلين، فضلاً عن مشرعين في الكونغرس الأميركي يدعون بهذا السبب إلى تشديد العقوبات على المتعاونين مع النظام.
التجديد للأسد والإفلات من العقاب
وككل عام، ناقش مجلس الأمن الوضع في سوريا لمناسبة مرور السنوات العشر، إذ قال مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة إلى دمشق غير بيدرسون إن "الصراع بات دولياً، ومعظم قضايا حله ليست بيد السوريين". وأضاف أن "من ارتكب جرائم حرب، أفلت من العقاب"، متهماً المجتمع الدولي "بالفشل في تخليص السوريين من الحرب".
لكن الفارق الثاني هذه السنة، وفيما يستمر توثيق الجرائم والفظاعات المتهم بها النظام ورأسه في أوروبا وأميركا، أن الأسد يتهيّأ لاستحقاق الانتخابات الرئاسية التي يفترض أن تجري في النصف الأول من مايو (أيار) المقبل، ليضمن تجديد تبوّئه المنصب لسبع سنوات جديدة. ولا ينوي الاتحاد الأوروبي وفق وثيقة سياسية استند إليها، الاعتراف بشرعية هذه الانتخابات نظراً إلى توقع حصولها خلافاً للقرار 2254 الذي ينص على رقابة دولية عليها وعلى اشتراك النازحين في الداخل والخارج فيها... وهذا ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى التأكيد على لسان مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل أن "الصراع في سوريا لا يزال بعيداً من الحل"، مشيراً إلى أن "لا حل إلا عبر الخيار السياسي". وأكد أن "العقوبات ضد النظام ورموزه مستمرة، وستُجدد في مايو المقبل".
التحرك الروسي
مع انسداد أفق الحل السياسي، تتحرك موسكو بخطوة استباقية لنزع الغرب الشرعية عن انتخاب بشار الأسد. فهي لا تستطيع الدفاع عن شرعية هذه الانتخابات بسهولة، نظراً إلى تناقضها مع قرار مجلس الأمن، ولكن لا بديل متوقعاً أو متوافراً بالنسبة إليها عن ذلك، فتسعى لتهيئة الظروف للحل السياسي بعد حصول تلك الانتخابات، على الرغم من اتهام دول الغرب قاطبة الأسد بأنه يفشّل الحل بالتوافق مع حليفته إيران.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان واحداً من أهداف الجولة الخليجية التي قام بها وزير الخارجية سيرغي لافروف بين 8 و12 مارس وشملت الإمارات والسعودية وقطر، التوافق مع الدول الثلاث على دفع الحل السياسي في سوريا، بمزيد من الانفتاح الخليجي على دمشق. وهو أمر تقوم به أبوظبي منذ أكثر من سنة. فإذا كانت موسكو تهتم لإضفاء شرعية على أي انتخابات، وعلى الحلول السياسية، بالسعي لإعادة جزء كبير من النازحين إلى أرضهم، وفق مشروع طرحته مطلع عام 2019، فإن هذه العودة تتطلب إعادة الإعمار، التي تحتاج إلى تمويل كبير، يصعب تأمينه من دون مشاركة دول الخليج وأوروبا وأميركا. لكن دول الغرب تمتنع عن الانخراط في أي تمويل من دون الحل السياسي، خلافاً لتوجهات بعض الدول العربية في طليعتها الإمارات، بوجوب الانفتاح على النظام لإبعاده عن إيران بتمويل إعادة الإعمار والعودة، واستعادة سوريا مقعدها في الجامعة العربية. إلا أن المعارضة الشديدة من قبل واشنطن التي تشترط انسحاب إيران والميليشيات التابعة لها من سوريا، فرملت اندفاعة كهذه منذ سنة حتى اليوم.
تحضير للحوار مع إدارة بايدن
وفي رأي مطلعين على الجهود الروسية أن موسكو تدرك حاجتها إلى التفاهم مع الإدارة الأميركية سواء من أجل الحل السياسي، أو من أجل معالجة عناوين مهمة مثل تمويل إعادة النازحين، وأن جلّ ما تفعله هو التحرك مع بعض الدول المعنية بالأمرين، تمهيداً أو تحضيراً لاتضاح صورة العلاقة بينها وبين إدارة جو بايدن لعل الحوار المرتقب بينهما يتيح مباشرة الحلول. في اختصار، التحرك الروسي استفاد من الوقت الضائع. ويقول هولاء المطلعين إنه لا يعقل أن تطرح موسكو على طهران مسألة انسحاب قواتها من سوريا، أو على "حزب الله"، الذي زارها وفد رفيع منه مطلع هذا الأسبوع، في وقت ليس هناك مقابل جرى التفاهم عليه بينها والإدارة الأميركية.
فقبل أن تتعقد العلاقة الأميركية الروسية في الساعات الماضية بسبب اتهامات بايدن الرئيس فلاديمير بوتين، واستدعاء موسكو سفيرها في واشنطن، كان الكرملين يترقب أن يحصل خلال الأسابيع المقبلة تواصل بين الجانبين من أجل البدء بوضع الأزمات الدولية ومنها سوريا، والعلاقات الثنائية، على مشرحة البحث بين الدولتين العظميين. والواضح أن التأزم المستجد في العلاقة سيؤخر ذلك ومعه جهود الحل السياسي. وحتى لو عاد الحوار بينهما، فإن الوضع السوري بات بالنسبة إلى إيران مرتبطاً بالمفاوضات المفترضة بينها وإدارة بايدن في شأن الملف النووي... وهذا يتحكم بالتالي بأي تفاهمات روسية أميركية ممكنة حول سوريا.
الاستنتاجات المتشائمة لـ"المجلس النرويجي للاجئين"
في الانتظار، يغلب التشاؤم على أي سيناريو في شأن سوريا التي بلغت انهياراً غير مسبوق في اقتصادها، باتت تفاصيله معروفة.
الأبرز في النظرة القاتمة إلى مستقبل سوريا، هو ما تضمنته الدراسة المشار إليها لـ"المجلس النرويجي لللاجئين"، مستندةً إلى مقابلات وجولات ميدانية، وإلى 155 مرجعاً وتقريراً عن سوريا لعام 2020، تحت عنوان "العقد الأكثر سوداوية" في حال استمر العالم في خذلان النازحين السوريين. وأبرز الخلاصات هي:
إذا استمرت الظروف الحالية، سنرى في العقد المقبل نزوح ستة ملايين جدد، وأن يغذي ذلك استمرار الصراع وانعدام الأمن وبشكل مطّرد، العوامل الاقتصادية، وبعضهم لن يعود.
في الدول المجاورة مثل الأردن ولبنان والعراق وتركيا، يعيش اللاجئون في نزوح طويل الأمد، مع قلة المؤشرات إلى إمكان عودتهم إلى سوريا قريباً، أو الاندماج الكامل حيث هم.
بعض دول المنطقة التي تستضيف اللاجئين قد تضغط في بعض الحالات لترحيلهم إلى سوريا بينما لا تزال العودة غير آمنة.
الدول ذات الدخل المرتفع لن تقدّم حصة عادلة في توفير ملاذ آمن للاجئين، وستترك دول المنطقة تتحمّل الجزء الأكبر من المسؤولية.
مع فقدانهم الوثائق الثبوتية، سيستمر النازحون السوريون في العيش من دونها مع صعوبة الحصول على الخدمات وحرمانهم من حقوقهم الأساسية كسوريين، ما يجعل العودة إلى ديارهم أكثر صعوبة وكذلك الاندماج في مكانهم الحالي.
في ظل تداخل المشكلات الاقتصادية في الإقليم، ستستمر أزمات المنطقة بالتأثير في النازحين وفي المجتمعات المضيفة.