بكل قوة وثقة ومن دون رجعة، خرجت طوابع البريد من بوابة تفاصيل الحياة اليومية والخدمات الاعتيادية والضرورات التي لا بد منها إلى المتاحف الأثرية وصالات المزادات الانتقائية، وأدراج مكاتب من رحلوا عن دنيانا، تاركين إرثهم من الطوابع والخطابات القديمة والأختام العتيقة في يد أحفاد لا يعلمون عن كلمة "طابع" سوى معناها من حيث التوجه السياسي، أو كونها صفة لصيقة بالإنسان، أو علامة من علامات الحسن في الوجوه.
وجوه الصغار نضحت باندهاش هائل لدى سؤالهم عن آخر مرة أرسلوا فيها خطاباً في مظروف عليه "طابع بوستة" (طابع بريد). وبعد الاندهاشة الأولى، تأتي ضحكات ساخرة وأسئلة تهكمية، وعلى الرغم من فوضى "التنكيت" فإن الجميع نما إلى مسامعه أو مداركه أنه كان يوجد شيء اسمه "طابع بريد"، وأن الأجداد كانوا يستخدمونه بغرض توصيل رسائل تحوي معلومات أو مشاعر أو ما شابه، وربما لحقه جيل الآباء والأمهات، "لكني لم أرَ واحداً بعيني".
اختلاف الأجيال
والأجيال الحالية عكس سابقتها، إذ سيطر التواصل الإلكتروني من الألف إلى الياء على معاملتهم. رسائل نصية قصيرة، مقاطع فيديو قصيرة، محتوى متعدد الوسائط قصير، وقائمة طويلة من وسائل التواصل "القصيرة"، تشكل وعي أجيال متواترة عن سبل الاتصال والتواصل.
وحتى نحو ربع قرن مضى، وقت بدء انتشار الرسائل النصية القصيرة، كانت الرسائل الطويلة والمظروف الورقي وطابع البريد سيدة الاتصال والتواصل.
ويقول قاموس المعاني إن الطابع هو "ما يلصق بالرسائل وغيرها من بطاقات صغيرة ترسمها الدولة، وتجعلها رمزاً لأداء أجر الإرسال".
مراسلات الأسرة الـ 18
إرسال الرسائل وتبادلها بين البشر قديم قدم المصريين القدماء، وبحسب ما ورد في كتاب "تاريخ البريد في مصر" لعبد الوهاب شاكر، فإن الوثيقة الأولى في العالم التي جاء فيها ذكر البريد تعود إلى عهد الأسرة الـ 18 عام 2000 قبل الميلاد.
والمؤكد أن المصريين القدماء كانت لديهم منظومة بريد قائمة بذاتها، إذ تواصل الملوك مع كبار رجال الدولة في مختلف الأقاليم وفي الدول التي فتحوها. وظلت الرسائل الفرعونية تحمل أوامر الملوك للمسؤولين وأخبار الأقاليم للحكام، ومنها المكاتبات الموجودة بين ملوك مصر القديمة من جهة وملوك الحيثيين وآشور وبابل وقبرص وصقلية.
هذه المراسلات لم تحمل طابع بريد، لكنها حملت طابع المراسلات الذي ما زال سائداً حتى الوقت الراهن، من أمثال "عزيزي فلان، بعد التحية، إليك هذه المعلومات أو المشاعر أو المطالب، مع التحية".
شكراً ووداعاً ساعي البريد
إعلانات لا أول لها أو آخر تملأ أسواق العالم من دون استثناء مع وعد باتصال وتواصل لا يتوقفان، ففي ثلاثة أشهر فقط من العام الماضي جرى بيع 360 مليون هاتف ذكي محمول، ناهيك عن بلايين الهواتف الأخرى وأجهزة الكمبيوتر والألواح الرقمية، وأغلبها يستخدم بغرض الاتصال والتواصل وذلك بضغطة زر.
الأزرار والدقات ووسائل التواصل الرقمية التي فرضت نفسها حتى على كثير من المكاتبات الحكومية تمعن يومياً في إزاحة طابع البريد بعيداً من عرشه الذي هوى، وشتان بين الهوى الذي نما وتوسع وقت ظهور طابع البريد الأول في بريطانيا قبل نحو 181 عاماً والإعجاب والإقبال الشديدين اللذين كانا في استقباله، وبين الهوى الذي هوى بتوقف الغالبية من سكان الأرض عن إرسال الخطابات وشراء الطوابع ولصقها على الأظرف، وكتابة العبارة الخالدة "شكراً لساعي البريد"، والتي تحوّلت إلى "وداعاً ساعي البريد".
بروفايل جانبي للملكة
حين أطلت الملكة فيكتوريا ببروفايل جانبي على طابع البريد الأول الذي يطلق عليه "بني بلاك" في السادس من مايو (أيار) عام 1840، شهدت التجارة والاتصال والتواصل انتعاشاً وانتشاراً غير مسبوقين، ولم لا وكلفة السفر والتواصل والحصول على إجابات لأسئلة أصبحت ميسّرة وفي متناول أيدي كثيرين؟
الكثيرون حول العالم لم يكتفوا بشراء الطوابع البريدية لضمان وصول الرسائل لجهات حكومية وأهل وأقارب وأصدقاء وعشاق، بل جمعوها ونسقوها وتبادلوها، ومنهم من باع الطابع الواحد بملايين الدولارات، إما لأنه نادر أو لأنه معيوب.
في العام 2019، بيع طابع بريد معيوب في مدينة "فيسبادن" الألمانية بـ 1.26 مليون يورو (1.5 دولار أميركي)، إذ جرت طباعته بطريق الخطأ على ورق أخضر بدلاً من الورق الوردي المعتاد للطوابع الألمانية في هذا الوقت، مما جعله ضمن الأندر والأغلى في العالم.
هواة ومليونيرات
لكن هواة الطوابع المتناثرون هنا وهناك ليسوا كلهم مليونيرات، لكنهم بكل تأكيد متيمون بهذه الأوراق الملونة الصغيرة القابعة في ألبومات التجميع المتراوحة بين مجموعة بسيطة من الطوابع العادية ومجموعات ثمينة تحوي ذكريات أزمنة فاتت بلا رجعة.
"الجمعية المصرية لهواة جمع طوابع البريد"، إحدى أعرق الجمعيات التي تجمع محبي جمع الطوابع، تحوي في عضويتها عدداً قليلاً من أساطين الهواة، بعضهم وجد نفسه منجذباً لهواية جمع الطوابع، وتثقيف نفسه بما يمثله كل منهم وسبل تقدير قيمته، والبعض الآخر انجذب لها لأنها هواية يمكن أن تتحول إلى تجارة سهلة ومسلية ومربحة.
وحتى أشهر قليلة مضت، تحديداً حتى بداية كورونا، كان أعضاء الجمعية يلتقون وينظمون معارض للهواة وندوات للتعريف بهواية جمع الطوابع، لا سيما في زمن تقرر فيه أن يكون المستقبل "بلا طوابع بريد".
حد الكفاف
البعض يحاول الإبقاء على الهواية، وليست الصناعة أو الاستخدام بالضرورة. وفي شوارع وسط القاهرة أماكن معروفة لهواة جمع الطوابع منذ عشرات السنوات، بعضها محال تجارية تجده يعرض طوابع هواة في الواجهة، ومعها بعض العملات المعدنية والورقية القديمة أو التي توقف طبعها أو حتى منسوخة طبق الأصل لعملات قديمة.
البعض الآخر أدمج تجارة المشغولات الفضية أو حتى الأدوات المكتبية مع النشاط الأصلي للطوابع حتى تبقى تجارته على حد الكفاف.
كفاف الطوابع النادرة في مصر والدول العربية يقف على طرف نقيض من انتعاش استخدام الطوابع وتحولها إلى مرحلة رئيسة في المراسلات والمخاطبات قبل ما يزيد على قرن ونصف.
الإيطالي كارلو ميراتي هو من أنشأ "البوستة الأوروبية" في مدينة الإسكندرية شمال القاهرة، وذلك بغرض تيسير إجراءات عمليات التصدير وتبادل الخطابات بين مصر والدول الأجنبية.
وفي العام 1864، اشترت الحكومة المصرية "البوستة" بعد ما أيقنت أهميتها التجارية، وتحولت "البوستة الأوروبية" إلى "البريد المصري" في الثاني من يناير (كانون الثاني) عام 1865، وفي العام التالي صدر طابع البريد المصري الأول، لتكون مصر ثالث دولة في العالم تصدر طوابع بريدية.
الملك فاروق
وظل "البريد المصري" مصدر فخر واعتزاز لمصر والمصريين على مدى عقود طويلة، وبحسب موقع "فاروق مصر" الإلكتروني المخصص لكل ما يتصل بالملك فاروق الأول الذي حكم مصر من عام 1936 وحتى ثورة يوليو (تموز) عام 1952، فقد عرف عنه ولعه الشديد بطوابع البريد.
ويقال إنه كان يصر على الحضور في أماكن طباعة الطوابع البريدية بنفسه حتى يتأكد من جودتها وجمال تصميماتها، ويقال كذلك إنه وقت خروجه من مصر كان طلبه بأن يأخذ معه مجموعة طوابعه النادرة معه ضمن قائمة المطالب التي تقدم بها للضباط الأحرار، وتشير الأدلة إلى أن طلبه قوبل بالرفض.
أفول زمن البريد
رفض التسليم بأفول زمن طوابع البريد سمة تجمع هواة الطوابع، ففي كندا على سبيل المثال، ظل موقع "أخبار البريد الكندي" الإلكتروني يقاوم أفول عصر الطوابع. الموقع الذي يجمع كثيراً من الهواة تحول خلال السنوات القليلة الماضية من محاولات تأكيد أن الطابع باق طالما هناك من يدعمه بالجمع أو طباعة الطوابع التذكارية إلى تبادل أخبار الطوابع القديمة النادرة الموجودة في أنحاء العالم، وتنظيم فعاليات نقاشية وفنية لاستعراض مجموعات الطوابع المتاحة، ومحاولات الإبقاء على تنظيم المعارض التي تبقي ذكرى الطابع حية.
غير أن زمن الجائحة أتى بما لا يشتهيه محبو الطوابع والمتشبثون بإبقائها حية ولو في قسم العناية الفائقة.
البقايا الباقية من استخدامات طوابع البريد حيث يلصقها البعض بمسحة مياه على المظروف، ويعتمد البعض الآخر على لعقة لسان غير صحية تحولت إلى مصدر رئيس من مصادر رهاب كورونا.
لعق الطابع والمظروف
الطريف أن موجات توعية بخطورة لعق الأظرف والطوابع البريدية دأبت على الظهور بين الحين والآخر على مدى عقود، وكان أحدثها في العام 2019، حين تبنى عدد من المنصات الإعلامية الأميركية والأسترالية والنيوزيلاندية مهمة توضيح الحقائق في ما يختص بلعق الطوابع والأظرف الورقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكان السؤال الأبرز، هل يمكن أن يؤدي لعق الطابع والظرف إلى انتقال الفيروسات من شخص إلى آخر؟ أغلب الإجابات دار في فلك وجود احتمال الإصابة بفيروس، لكنه احتمال ضعيف ويفضل الوقاية منه.
وتحفل منصات عدة بنصائح تتعلق بالقواعد الصحية التي يفضل اتباعها لدى تلقي شحنة أو خطاب بريدي، وأهمها إبقائها بعيدة من الوجه وغسل الأيدي بالماء والصابون عقب حملها، وعدم لمس الوجه.
كان هذا في زمن ما قبل الوباء، واليوم وبينما يدخل الكوكب عامه الثاني في كنف كورونا، باتت الغالبية تنظر إلى طابع البريد والمظروف المعروف تناقله من لسان هذا إلى أيدي هؤلاء بعين ملؤها الريب والخوف، هيئات بريدية عدة حول العالم أوقفت خدماتها في الموجة الأولى من موجات الوباء، وهيئات بريدية أخرى أصبحت تعتمد على صرف معاشات وتحويل حوالات مالية، وتنسيق قروض متناهية الصغر حتى صار اسم "البريد" في عنوانها أطلالاً تتذكر زمناً فات.
رسائل بريدية
الغريب أن الوباء الذي كان مسماراً إضافياً في مسيرة طابع البريد يجري التعامل معه هذه الآونة، باعتباره موضوعاً لإصدار طوابع البريد التذكارية.
منظمة الأمم المتحدة وجهت دعوة في مارس (آذار) 2020 إلى المبدعين للخروج بأفكار تسهم في نشر التوعية للحد من انتشار كورونا، وخرج آلاف منهم بأفكار رائعة لدعم جهود الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية، وكان من أبرزها فكرة طوابع بريد تحمل رسوماً توعوية ورسائل صحية لمواجهة الوباء.
وكانت النتيجة ستة طوابع بريد مميزة يحمل كل منها رسالة صحية، النظافة الشخصية، ونسف الخرافات، والتباعد الجسدي، ونشر التعاطف، واعرف الأعراض، والتكافل. وتباع هذه الطوابع بعد إضافة نسبة صغيرة تخصص لدعم جهود التخفيف من آثار احتواء الوباء لدى الفئات الأكثر هشاشة.
يشار إلى أن الأمم المتحدة مسموح لها بإصدار طوابع بريدية على الرغم من أنها منظمة وليست بلداً أو إقليماً، وكانت المنظمة الأممية توصلت إلى اتفاق مع الولايات المتحدة الأميركية في 1951 سُمح للأمم المتحدة بموجبه بإصدار طوابع بدولارات أميركية لاستخدامها حصراً في مقر الأمم المتحدة في نيويورك.
كما أبرم اتفاقان مماثلان مع السلطات السويسرية عام 1968 والنمساوية في 1979، وتعد إدارة الأمم المتحدة للبريد حالياً سلطة البريد الوحيدة التي تصدر طوابع بثلاث عملات مختلفة، الدولار الأميركي والفرنك السويسري واليورو، ويمكن استخدام الطوابع عندما يُرسل البريد من مكاتب الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف وفيينا،
وتصدر الأمم المتحدة طوابع عادية وأخرى تذكارية على السواء، وتصدر عادة ستة تذكارية جديدة كل سنة في نيويورك وجنيف وفيينا في الوقت نفسه، وتظل متاحة للبيع سنة، ثم يجري تدمير المتبقي منها ولا تعاد طبعها.
تحية لعمال البريد
وكان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش وجه رسالة تحية وتقدير لعمال البريد بالعالم في يوم البريد العالمي خلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. وقال إن الأمم المتحدة ستواصل الاستفادة من الشراكة مع العاملين في مجال البريد ومع الاتحاد البريدي العالمي في سياق جهود تحقيق خطة التنمية المستدامة لعام 2030.
وأشار إلى أن الجائحة مسّت كل جانب من جوانب حياتنا، وكانت اختباراً للجميع، وقال غوتيريش إنه في هذه الأوقات العصيبة وجد الإلهام في العمال الأساسيين، "الذين بفضلهم واصلت مجتمعاتنا كبيرها وصغيرها أداء وظائفها بسلاسة في ظروف في منتهى الصعوبة".
ووجه الأمين العام تحية إلى عمال البريد الذين عرّضوا أنفسهم لأخطار جمة وتجاوزت إنجازاتهم مجرد إيصال البريد.
وقال إن هؤلاء العمال أسدوا خدمات مجتمعية مبتكرة للمسنين والمهمشين اجتماعياً، وسملوا أدوية ومعدات تنقذ الحياة، وساعدوا في ضمان وصول طرود الأغذية والأموال إلى المحتاجين.
المداواة الرقمية
آلاف وربما ملايين المحتاجين لمن يهدئ روعهم في ما يختص بمصير هوايتهم المحببة، ألا وهي جمع وتبادل الطوابع البريدية، وعلى الرغم من أن متوسط أعمار الهواة مرتفع، أي أن الهواية أكثر انتشاراً بين الأكبر سناً، فإن بينهم من طوّع قدراته الرقمية ورفع من ملكاته التكنولوجية، ليبقي هوايته على قيد الحياة من خلال تطبيق مبدأ "داوها بالتي كانت هي الداء".
"داء" البريد الإلكتروني والرسائل النصية القصيرة والطويلة ومنصات التواصل الاجتماعي الذي أصاب طوابع البريد في مقتل تحولت إلى مداواة لجروح محبي الطوابع.
مواقع البيع والشراء تحوي عروضاً لبيع طوابع نادرة وأخرى قديمة وثالثة يحبها محترفو الاقتناء، وصحيح أن النصب قائم والاحتيال وارد، لكن على الأقل منصات البحث والتواصل متوافرة، وعلى المضطر أن يركب الصعب ويتحقق من العرض.