حين تتأمل محتوى معرض "ملامح" لصاحبته الفنانة والشاعرة ومُخرجة الأفلام الإماراتية نجوم الغانم لا تستطيع أن تُنحّي جانباً هذا البُعد السينمائي الذي ينطوي عليه، من طبيعة المعرض وعناصره، وتنظيمه كعرض تفاعلي يُشرك الزائر في مُحتواه. في هذا المعرض الذي يستضيفه مركز مرايا للفنون في الشارقة، لا تكتفي الغانم بالطريقة التقليدية في عرض اللوحات والصور، بل توظفها وفق نسق بصري موحد يُراعي حركة الزائر وتفاعله المُستمر والمتغير مع الأعمال، ليس عبر فضاء المساحة فقط بل وتوقيت العرض أيضاً. ومع تنوع المعروضات بين وسائط مُختلفة من لوحات مرسومة بخامات متعددة وتوظيف لشاشات العرض والحضور اللافت للمؤثرات الضوئية والصوتية، يمكن تصنيف المعرض على هذا النحو كعمل فني تركيبي وتفاعلي قائم على وسائط وأساليب عرض متنوعة.
تشغل الأعمال ثلاثة مستويات في فضاء مركز مرايا للفنون، وتتوزع وفق مجموعات عدة تُصنفها الفنانة بحسب رؤيتها ومعالجاتها البصرية.
تبرز بين هذه المجموعات واحدة تضم حوالى ألف وجه مرسوم بألوان الأكريليك على خامات مختلفة كالقماش والخيش والقطن، تتداخل في تكوينها مواد أخرى مثل الخيوط والصمغ وغيرها وتحمل المجموعة عنوان "كاتدرائية الوجوه". أما مجموعة "المكتبة" فتشمل عدة أرفف عليها لوحات مرسومة بالأبيض والأسود.
وثمة مجموعة أخرى تضم أكثر من مئة وجه مرسوم على الخيش. وفي مجموعة "إيموجي" نجد أعمالاً مرسومة على قطع من الخزف تتضمن مُقاربات لأشكال الرموز التعبيرية المُستخدمة على مواقع التواصل الاجتماعي.
"محادثات مع الطين"
تُعرض المجموعات الأخرى تحت مسميات مختلفة كمجموعة المقبرة التي استخدمت خلالها الألوان الفوسفورية، و"محادثات مع الطين" التي تمزج خلالها بين القطع الخزفية والمواد الصلبة كالحديد والزجاج والأسلاك. وثمة مجموعة مرسومة بألوان الأكريليك وخامات أخرى على صناديق خشبية موزعة على قاعدة في وسط قاعة العرض الرئيسية. أما مجموعتها "مونتاج خشبي" فتمثل استحضاراً لعملية المونتاج على الأفلام وتضم لوحات مرسومة ضمن تداخل لطبقات من القواطع الخشبية. وفي مجموعة "مواد مكتشفة" ثمة أعمال قائمة على التجريب باستخدام الإسمنت والرمل والجير والفحم وليف النخيل والقماش والخيش والأسلاك والبلاستيك.
بين مساحات العرض ثمة مساحة تمثل محاكاة لمُحترف الفنانة تتغير هيئتها والأعمال المعروضة بها مع مرور زمن العرض، إذ تُضيف إليها الغانم وتُغير من ترتيب الصور المعروضة بها خلال أيام المعرض. وتلفت انتباهك مساحة أخرى تشغلها مجموعة من الوجوه المرسومة على مساحات مختلفة من ألواح تقطيع الطعام، تتدلى الألواح من أعلى في استحضار لقطع اللحم المُعلقة في محال بيع اللحوم. وثمة غرفتان مظلمتان تقدمان نظرة تفصيلية حول أعمال الفنانة باستعمال أضواء مُسلطة ووجوه متحركة رقمياً، مستلهمة من ثقافة الصور الذاتية (سيلفي) لخلق حوار مع المشاهدين. وفي نهاية الجولة يُدعى زائر المعرض لمشاركة انطباعاته وأفكاره حول موضوع المعرض من خلال أوراق تم تعليقها على لوح عرض مغناطيسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقتصر اللوحات هنا على رسوم الوجوه فقط، إذ يضم المعرض حوالى ألفي وجه مرسوم مع اختلاف الخامة والسطح، ومن هنا جاء اسم المعرض "ملامح".
هي ليست ملامح لأشخاص بعينهم، بل وجوه تتسرب من المخيلة مباشرة على مساحة الرسم وتسكنها ملامح وتعابير متباينة، وكأن الفنانة تقتفي من خلالها أثر العشرات من المجهولين الذين لم يتسن لها تتبع حيواتهم وسيرهم.
ففي معالجاتها السينمائية طالما سلطت الغانم الضوء على هؤلاء الناس مقتفية أثر التحولات التي طرأت على بلدها مع التأكيد على المفارقة بين القديم والحديث.
ثمة إشارة آخرى تؤكد هذه المرجعية السينمائية التي تعتمد عليها نجوم الغانم في معرضها، وتتمثل في الإطارات الفارغة والمُعلقة على مسافات مختلفة من المساحات المرسومة.
إطارات بأحجام متباينة تتيح لك رؤية مغايرة للأعمال من خلالها، كما لو أن الفنانة تتعمد خلق مُقاربة بصرية لشاشة العرض السينمائي. العلاقة بين هذه الأطر الفارغة والرسوم المُقابلة لها على الجدران تخلق نوعاً من الحركة والرؤية المتغيرة بتغير وضعية الزائر وابتعاده أو اقترابه من المساحة، وحدود رؤيته للأعمال المعروضة عبر تداخلها مع هذا الإطار الفارغ.
هذه الرؤية البصرية للأعمال المعروضة تتسق مع تجربة الغانم الإبداعية التي تتميز بالمزج بين أكثر من وسيط، كما تُذكر بعملها الذي عرضته في بينالي البندقية الأخير تحت عنوان "عبور". وهو عمل تجهيزي مزجت خلاله بين الصورة السينمائية والحكي والشعر عبر اعتمادها على قصيدة لها بعنوان "العابر يلتقط ضوء القمر".
ومن هنا يمكن القول أن تجربة نجوم الغانم تسعى لتجاوز الحدود بين الوسائط المختلفة من شعر وسينما ورسم والتعامل معها كمعابر للمرور نحو فضاء أرحب وأكثر شمولاً وتنوعاً.