لم يكن أحد في لبنان يتنظر أن يرى دخاناً أبيض يتصاعد من قصر بعبدا بعد اللقاء الـ 18 بين رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس المكلف سعد الحريري، مؤذناً بالاتفاق على التشكيلة الحكومية الجديدة، لكن أحداً أيضاً لم يتوقع أن تصل الأمور بين الرجلين إلى ما وصلت إليه، بعد حرب بيانات واتهامات متبادلة حمّل كل واحد فيها مسؤولية التعطيل على الآخر، وصولاً إلى كشف وثائق ومسودات لصيغ حكومية فضحت المستور، وتبيّن أنها لا تزال تندرج بالنفسية ذاتها القائمة على توزيع الحصص بين القوى السياسية، بما يتناقض مع المبادرة الفرنسية، وما تعهد به الجميع بتشكيل حكومة من الاختصاصيين غير الحزبيين. بين عون والحريري "انكسرت الجرة"، وتبددت معها كل الآمال بتشكيل حكومة جديدة، وسط معلومات تؤكد أن تصريف الأعمال سيستمر حتى نهاية العهد أي حتى العام 2022.
الزيارة الأخيرة
ولم يستغرق اجتماع الإثنين 22 مارس (آذار)، الذي وُصف بالحاسم، أكثر من 30 دقيقة، ووفق مصادر قصر بعبدا فقد كان الرئيس المكلف مستعجلاً جداً لإنهائه ورغب في المغادرة بعد عشر دقائق. حُكم على اللقاء بالفشل قبل انعقاده بمجرد استباقه بخطوة غير مسبوقة من قبل رئيس الجمهورية، عندما أرسل إلى الرئيس المكلف قبل يوم على الموعد ورقة تضمنت توزيعاً للحقائب على الطوائف والأحزاب مُرفقة برسالة يتوجه فيها عون للحريري بصيغة رئيس الوزراء السابق بالقول، "نموذج للتعبئة يسهل النظر في تأليف الحكومة، من المستحسن تعبئته".
استفزت الرسالة الحريري فرفض مناقشتها مع عون ولم يعمل على تعبئة الورقة، بل اكتفى بتسليمها فارغة إلى رئيس الجمهورية محتفظاً بنسخة لنفسه للتاريخ كما قال.
خرج الحريري للمرة الأولى عن أسلوبه الدبلوماسي، وتقصّد الرد على خطوة عون معتبراً أن "كأنها لم تكن"، وردد أمام الإعلاميين ما قاله للرئيس في اللقاء الثنائي، "إن المسألة غير مقبولة لأن عمل الرئيس المكلف ليس تعبئة أوراق، ولا عمل رئيس الجمهورية تشكيل حكومة"، وذكر الحريري بأن الدستور ينص بوضوح على أن الرئيس المكلف يشكل الحكومة ويضع الأسماء ويتناقش في التشكيلة مع الرئيس، وكشف أن التشكيلة التي أرسلها عون تتضمن الثلث المعطل لفريقه السياسي بالصيغ الثلاث، الـ 18 والـ 19 والـ 20 وزيراً. وفي خطوة أراد منها إحراج رئيس الجمهورية الذي اتهمه مراراً بعدم تقديم تشكيلة كاملة مكتفياً بالخطوط العريضة، وزّع الحريري على الإعلاميين التشكيلة التي كان سلمها إلى رئيس الجمهورية في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) 2020 أي منذ أكثر من 100 يوم، والتي تضمنت 18 اسماً مقترحاً لتولي الحقائب الـ 24 والموزعة طائفياً بين تسعة مسيحيين وتسعة مسلمين، وقال إنهم من الاختصاصيين.
حرب الوثائق
وتولت المديرية العامة لرئاسة الجمهورية الرد على الحريري، وأوضحت في بيان تلاه المستشار السياسي للرئيس أنطوان قسطنطين بعد أقل من ساعة على مغادرة الحريري، فنفى أن يكون عون طلب الثلث وعرض أمام الإعلام ما وصفه بالورقة المنهجية التي أرسلها رئيس الجمهورية إلى الرئيس المكلف، والتي تنص فقط على منهجية تشكيل الحكومة من باب التعاون الذي يجب أن يسبق كل اتفاق عملاً بأحكام المادة (53) البند الرابع من الدستور، أما اللافت في الورقة المنهجية لرئيس الجمهورية تخصيصه عموداً للمرجعيات التي ستسمي الوزراء، بما ينقض أي كلام عن صيغة حكومية من اختصاصيين غير حزبيين.
وعلى الفور سارع المكتب الإعلامي للرئيس الحريري بإصدار بيان أسف فيه لما وصفه بالمغالطات التي تضمنها بيان بعبدا، وأكد أن رئيس الجمهورية منذ تكليف الحريري يصرّ في كل الاجتماعات على التمسك بحصوله على الثلث المعطل، مضيفاً أن هذا الأمر لم يتغير من البداية وحتى اليوم. وأكد مكتب الحريري أن الجدول الذي عرضته المديرية العامة لرئاسة الجمهورية لا يمت بصلة إلى ما أرسله عون للحريري، ووزع مكتب الرئيس المكلف الرسالة التي وصلته من عون، وقد كتب عليها الرئيس بخط يده، وفيها توزيع الحصص على الأحزاب وفق الطوائف مع ثلث واضح ضمن حصة الرئيس، وتنص حصول عون في صيغة الـ 18 على حصة من ستة وزراء، إضافة الى وزيري "الحزب الديمقراطي" و"الطاشناك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رد مضاد من المكتب الإعلامي لرئاسة الجمهورية اعتبر أن النص الذي وزعه المكتب الإعلامي للحريري يعود إلى فترة تبادل الصيغ الحكومية بينهما في الفترة الممتدة بين أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) وأوائل ديسمبر 2020. وأكدت مصادر مقربة من قصر بعبدا أن الورقة التي أرسلها عون إلى الحريري هي خلاصة أكثر من 16 جولة من المحادثات، ولم تكن الورقة التي عرضها مكتب الحريري للإعلام. انتهت حرب البيانات عند هذا الحد واكتفى المستشار الإعلامي للحريري حسين الوجه بالتغريد رداً على بيان بعبدا، "عندما تضع نفسك في حفرة، أحسن نصيحة هي أوقف الحفر".
عون يستعيد معركة الصلاحيات
ويعتبر المستشار السياسي لرئيس الجمهورية أنطوان قسطنطين أن الرئيس المكلف أعطى تفسيراً للدستور من على منصة القصر الجمهوري، مما شكل اعتداء على الدستور وعلى الميثاقية. الاعتداء الدستوري "لم يحصل من قبل رئيس الجمهورية وإنما من جانب الرئيس الحريري وبوقاحة"، على حد تعبير قسطنطين، لا سيما عندما استبقه ببيان فاضح حاول فيه المساواة بين رئيسي الجمهورية والحكومة بمجرد ربط اعتذاره عن التكليف باستقالة الرئيس عون. ويذكر قسطنطين أن الدستور اللبناني يعطي رئيس الجمهورية في كل المواد صلاحية الشراكة الكاملة في عملية تكوين السلطة أي تشكيل الحكومة. وبحسب قسطنطين فإن عون يملك منفرداً صلاحية إصدار المرسوم ويملك بالشراكة مع الرئيس المكلف صلاحية التشكيل، لكن الحريري أوحى في كلامه عن عملية نزع صلاحيات من رئيس الجمهورية وحصر دوره بالتوقيع على التشكيلة، محولاً إياه "باش كاتب" عنده.
ويشرح المستشار السياسي للرئيس أن صلاحية تشكيل الحكومة قبل اتفاق الطائف كانت محصورة برئيس الجمهورية، وبعد الطائف أدخل معه شريكاً في عملية التأليف هو الرئيس المكلف، لكن الحريري في كلامه من بعبدا أراد أن يقول "لا شريك لي في التأليف"، وهذا لن يرضى به رئيس الجمهورية والتنازل عنه اليوم سيثبت وفق قسطنطين، عُرفاً جديداً لا يمكن إلغاؤه أو العودة عنه كما حصل في أكثر من قضية تخص المسيحيين في الدولة. وينفي مستشار الرئيس مطالبة عون بالثلث المعطل، ويكشف أن اللواء عباس إبراهيم حمل إلى الحريري عرضاً من عون تضمن موافقته على حصة من خمسة وزراء زائد وزير للـ "طاشناك"، لكن الرئيس المكلف رفض. ماذا بعد اجتماع الإثنين، يجيب مستشار القصر "الرئيس مكبل ولا يمكن أن ينزع التكليف من الحريري". ويضيف، "وحدهم النواب الذين كلفوه يمكن أن يعيدوا النظر بتكليفه، وعلى النواب أن يتحركوا وفي يدهم الحل"، يقول قسطنطين.
ارتياح سني لمواقف الحريري
وإذا كانت دوائر القصر الجمهوري فسّرت موقف الحريري على أنه خرق فاضح للدستور، إلا أن الرئيس المكلف نجح في المقابل في استعادة التأييد السني، ومن بينهم من كان ينتقده على تنازلات قام بها الحريري لمصلحة العهد.
وزير الداخلية السابق نهاد المشنوق الذي يتهم "حزب الله" بعرقلة تأليف الحكومة، وأن عون وباسيل هما الواجهة، علّق على الكلام الذي قاله الحريري من قصر بعبدا مغرداً، "اليوم بدأ الرئيس الحريري مسيرة استعادة شرعية رئاسة الحكومة بالصلابة والصمود والصبر". أما الوزير السابق أشرف ريفي فاعتبر أن موقف الحريري خطوة في الاتجاه الصحيح في مواجهة الانقلاب على الدستور والبلد، ودعا إلى التضامن الإسلامي - المسيحي لإجهاض الانقلاب المدمر، ولنزع الشرعية عن مجلس النواب بالاستقالة، ولإعادة تشكيل سلطة وطنية نزيهة.
في حرب الحفاظ على صلاحيات رئاسة الحكومة تلقى الحريري أيضاً جُرعة دعم إضافية من رؤساء الحكومة السابقين، الذين عقدوا اجتماعاً في بيت الوسط بإشارة واضحة إلى الوقوف إلى جانب الحريري. وفيما أكدت مصادر مقربة من الرئيس المكلف أن اعتذاره غير مطروح وسيستمر في تحمل مسؤولياته، برز تأييد شيعي لافت لمواقفه عبر عنه رئيس مجلس النواب نبيه بري من خلال "حركة أمل"، التي أصدرت بياناً قبل ساعات قليلة على توجه الحريري إلى بعبدا، دعمت فيه موقف الحريري بتشكيل حكومة وفق المبادرة الفرنسية من 18 وزيراً، تضم اختصاصيين غير حزبيين ولا ثلث معطل فيها لأي فريق.
موقف الحركة شكّل مفاجأة لا سيما أنه أتى مناقضاً لكلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الأخير، مما طرح أكثر من علامة استفهام حول أسبابه. وفيما كشفت مصادر مطلعة عن خلاف غير مُعلن نشأ في الفترة الأخيرة بين الثنائي الشيعي حول أكثر من ملف، من بينها ملف ترسيم الحدود مع إسرائيل، إضافة إلى الواقع المعيشي وشعور الحركة بتمييز الحزب في مساعداته، وسط معلومات تفيد بالتحاق أكثر من 50 عنصراً من الحركة بـ "حزب الله" خلال الفترة الأخيرة، يعتبر البعض أن موقف "أمل" والرئيس نبيه بري قد يكون في إطار توزيع الأدوار مع الحزب، ويصب في اتجاه قطع الطريق على احتمال تنفيذ استقالة جماعية نيابية قد يبادر إليها الحريري مع الاشتراكي والقوات اللبنانية، علماً أن استقالة الكتل الثلاث غير واردة وتنفيها مصادر في "المستقبل" و"الاشتراكي" و"القوات اللبنانية". هذا وبرز اجتماع ثنائي بين "حزب الله" و"أمل" حضره المعاون السياسي لحزب الله حسين خليل ورئيس وحدة الارتباط وفيق صفا والنائب علي حسن خليل وأحمد البعلبكي المستشار الأمني لرئيس مجلس النواب عن "حركة أمل"، وخُصص اللقاء لضبط الشارع ومواقع التواصل الاجتماعي التي عكست تبايناً واختلافاً بين الجمهورين على خلفية وقوف الحزب إلى جانب رئيس الجمهورية ورئيس "التيار الوطني الحر" مقابل دعم "أمل" وبري للحريري.
قلق أوروبي ودولي وعربي
انسداد الأفق الحكومي انعكس قلقاً دولياً وعربياً، إذ توالت التحذيرات الأوروبية والدولية متخوفة من انهيار لبنان. وفيما عبرت الخارجية الأميركية عن قلقها حيال تطورات الوضع في لبنان وعجز القيادة فيه، دعت اللبنانيين إلى وضع خلافاتهم جانباً والإسراع بتشكيل الحكومة، وطلبت فرنسا تدخلاً أوروبياً لمواجهة الأزمة في لبنان، وأعلن وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، أن لبنان ينهار في أزمته الاقتصادية والسياسية، وأعرب عن إحباطه من الجهود الفاشلة لتشكيل الحكومة. وفيما كشفت وزارة الخارجية الفرنسية أن رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون أجرى اتصالاً بالرئيس الحريري عقب خروجه من قصر بعبدا، تمنى عليه أخذ الحيطة والحذر في تنقلاته ودعاه للسفر إلى فرنسا، لكن الحريري رفض طلب ماكرون بترك البلد، وعُلم أن الاتحاد الأوروبي وضع قرار تنفيذ العقوبات الأوروبية على سياسيين في لبنان حيّز التنفيذ، وقد طلب من اللجان المتخصصة في الاتحاد درس الآلية الخاصة لتطبيق العقوبات، والتي تبدأ بتجميد أموالهم في دول القارة العجوز ومنع سفرهم إلى أوروبا.
وتشاركت جامعة الدول العربية مع الدول كافة القلق على لبنان، ودعت الفرقاء السياسيين إلى إعلاء المصلحة الوطنية والعمل بشكل سريع على إنهاء حال الانسداد السياسي الذي فاقم معاناة الشعب، وتخوف الأمين العام أحمد أبو الغيط من انزلاق البلاد نحو وضع شديد التأزم، وعرض استعداد الجامعة للقيام بأي شيء يُطلب منها لرأب الصدع الحالي، وأيد المبادرة الفرنسية وتمكين الرئيس المكلف من تشكيل حكومة من دون تعطيل وتعمل بمهارة الاختصاصيين.