"إن هذا الاتفاق كان من المفترض أن يجلب الاستثمارات والوظائف للاقتصاد الأميركي، إلا أن دولاً أخرى هي التي استفادت منه ولم تطل أميركا أي شيء". لم يكن هذا الكلام للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في أبريل (نيسان) عام 2018 خلال إعلان استراتيجية إدارته في التعامل مع النظام الإيراني والاتفاق النووي قبيل الانسحاب منه، مجرد محطة كلامية أو موقفاً عابراً من ضمن المواقف التصعيدية التي لجأ إليها سابقاً ولاحقاً، بل هو تعبير عن الرؤية الأميركية الأقرب إلى الحقيقة لما يتعلق بمستقبل العلاقة مع إيران والظروف التي تحكم قرار الإدارة الأميركية في الاستمرار بالإبقاء على الاتفاق النووي قيد الحياة أو العمل على إنهائه.
على المقلب الإيراني، واجه الرئيس حسن روحاني وكبير المفاوضين وزير الخارجية محمد جواد ظريف أزمة داخلية في المواجهة التي اشتعلت مع قوى وأحزاب المعسكر المحافظ حول مستقبل العلاقة بين إيران والولايات المتحدة بعد التوقيع على الاتفاق النووي، الذي لم يبتعد عن كونه اتفاقاً ثنائياً بين واشنطن وطهران بشكل حصري، وأن الدول الأخرى التي شاركت في التفاوض والتوقيع لم تكن تملك القدرة على تغيير المسارات التي آلت إليه الأمور بعد انسحاب ترمب منه، خصوصاً في مواجهة العقوبات التي فرضها ضد إيران، فاضطرت دول الترويكا الأوروبية للالتزام بتنفيذ العقوبات والانسحاب من الأسواق الإيرانية ووقف استثماراتها في قطاعات الطاقة والبنى التحتية، في حين أوقف حليفا طهران، أي موسكو وبكين معظم تعاونهما الاقتصادي، خصوصاً في قطاع النفط.
الجهود التي بذلها روحاني ومعه ظريف من أجل تطبيع العلاقة بين طهران وواشنطن، كانت تسعى للوصول إلى نتائج إيجابية قبل انتهاء ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، وهي رغبة مزدوجة لدى الطرفين، وقد ارتفعت أصوات من بعض الأطراف الإيرانية، غالبيتها مقربة من روحاني وفريق الإصلاحيين تدعو لإعادة النظر في الموقف العدائي القائم منذ سنين بين إيران وأميركا، وأن المرحلة تفترض الانتقال إلى مستوى جديد من التعامل والتعاطي، بخاصة بعد أن استطاعت إيران تحقيق غالبية ما تطمح له من مطالب، إن كان في البرنامج النووي والاعتراف الدولي بما حققته، وإن كان في الضمانات التي قدمها أوباما باستبعاد خيار تغيير النظام عن طاولة الخيارات الأميركية في التعامل مع إيران، إضافة إلى الصمت أو السكوت الأميركي عن النشاطات الإيرانية في الإقليم بما يشبه تفويضها اللعب بعواصم عدد من الدول وضمها إلى المحور الإقليمي الذي تقوده على حساب استقرار وأمن ودور دول عربية فاعلة في هذه المنطقة الحيوية وما فيها من أزمات متراكمة بعضها نتيجة التدخلات الإيرانية في الشؤون الداخلية لهذه الدول.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمكن القول، إن الجدل الداخلي الإيراني سار في ثلاثة اتجاهات، الاتجاه الأول يدعو إلى تطبيع العلاقات مع واشنطن والخروج من حالة المواجهة والعداء وفتح باب الحوار المباشر حول مختلف القضايا والمسائل من دون الحاجة إلى وسيط، أما الاتجاه الثاني، فذهب إلى ما هو أبعد من التطبيع، بالدعوة إلى عودة العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة فتح السفارات والبدء في مسار من التعاون يضمن لإيران الحصول على اعتراف أميركي مباشر وواضح بدور إقليمي ومؤثر في قضايا المنطقة. في حين تمسك الاتجاه الثالث بموقف الشك والريبة في النوايا الأميركية، معتمداً في موقفه هذا على السلوك الأميركي ما بعد الاتفاق الذي استمر في اعتماد نهج اللجوء إلى العقوبات وعدم إسقاط جميع القوانين التي سبق أن أقرها ضد النظام إن كان في مجال اتهام طهران بدعم الإرهاب أو في مجال انتهاك حقوق الإنسان. وقد كان المرشد الأعلى للنظام على رأس هذا الاتجاه على الرغم من أن الاتفاق الموقع في جنيف في 15 يوليو (تموز) 2015 لم يكن ليحصل ما لم يعط الفريق المفاوض الضوء الأخضر بذلك.
الرغبة الأميركية الأوبامية في عودة العلاقات وتطبيعها مع طهران، اصطدمت بالرفض الإيراني الذي لم يقف عند حدود الجانب الدبلوماسي والسياسي، بل شمل أيضاً رفض التعامل في المجال الاقتصادي وتقديم تسهيلات أمام الشركات الأميركية بالدخول إلى السوق الإيراني والعمل في قطاعات سبق أن أسهم الأميركيون في بنائها في عهد النظام السابق، وتحديداً في القطاع النفطي. ولم يكن الرئيس أوباما وفريقه قادرين على فعل أي شيء وهم يشاهدون تدافع الشركات الأوروبية والآسيوية والروسية إلى السوق الإيرانية والحصول على مشاريع استراتيجية في حين استبعدت عن ذلك الشركات الأميركية.
من هنا يمكن القول، إن الضغوط التي تمارسها الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة جو بايدن، والتي كانت مساهمة بشكل فاعل في صياغة الاتفاق في عهد أوباما، لا تقتصر أو تنحصر في الحصول من إيران على تنازل للعودة إلى تطبيق بنود والتزامات الاتفاق والتخلي عن الخطوات التي قامت بها لتقليص تعهداتها قبل موافقة واشنطن على رفع العقوبات التي فرضها ترمب في السنوات الثلاث الماضية، أو إجبارها على فتح مسارات جديدة من التفاوض حول برنامجها الصاروخي ودورها ونفوذها الإقليمي وضرورة توسيع دائرة الدول المشاركة في الاتفاق ليضم دولاً إقليمية عربية لتخفيف مصادر قلقها وهواجسها من الطموحات التوسعية لإيران في الإقليم. بل إن الهدف الذي يظهر في تأكيدات المسؤولين الأميركيين بضرورة التوصل إلى اتفاق جديد قابل للاستمرار ويشمل جميع المسائل الثنائية والدولية والإقليمية، يحمل على الاعتقاد بأن ما تريده واشنطن، ولا تستبعده طهران، يدور حول ضرورة التوصل إلى حل للنزاع التاريخي بين البلدين، والانتقال إلى مرحلة من العلاقات المتقدمة التي تشمل إعادة تطبيع العلاقات بما فيها التبادل الدبلوماسي والسياسي، فضلاً عن إزالة كل العقبات والموانع التي تحول دون دخول الشركات والاستثمارات الأميركية إلى السوق الإيرانية واقتصادها المتعطش للمشاريع الاستراتيجية والإنمائية في مختلف القطاعات الاقتصادية في البنى التحتية والطاقة، حتى النووية. وتظهر الحاجة الأميركية لذلك مع ظهور توجه جدي لدى طهران يقوده المرشد الأعلى لبناء "تحالف شرقي" بأبعاد اقتصادية وتجارية وعسكرية وأمنية واستراتيجية يضم إيران وروسيا والصين، لمواجهة الضغوط والعقوبات والحصار الأميركي الذي يتعرضون له، بخاصة وأن خامنئي يعتبر في رؤيته الاستراتيجية أن "آسيا" ستلعب في المرحلة المقبلة دوراً قيادياً على مستوى العالم مع تراجع الدور الأميركي وغياب الفعالية الأوروبية.