المشهد السياسي في السودان اليوم، على ما فيه من سيولة تتصل بالواقع الثوري الجديد، يحيل إلى سيناريوهات مفتوحة يصعب التكهن بها، في تقديرنا، نظراً لهشاشة الوضع الأمني والفراغ الدستوري الذي تعيشه البلاد لمدة لم يكن لها أن تطول.
وإذا كان من السهولة بمكان القول: إن واقع ما بعد الثورة لا يزال يضمر واقعاً موازياً تنعكس تعبيراته في عناصر من بقايا شبكة لمتنفذين سابقين لنظام الإنقاذ على مدى 30 سنة، في مجالات عدة، لا سيما المجال الإعلامي؛ يمكن القول أيضاً إن ثمة ذاكرة عامة لمواطنين صالحين تشرَّبت ذهنياتهم مقولات الإسلام السياسي، التي تم تكريسها خلال ثلاثين سنة، فبدوا لقناعاتهم المؤدلجة بتلك المقولات كما لو أنهم خزين جاهز للتفاعل مع الشعارات التي تستثمرها بقايا نظام المؤتمر الوطني وأحلافه في تدابير ثورة مضادة (دون أن يشعر أولئك المواطنون بالكيد الذي يساقون إليه) كما بدا ذلك قبل أكثر من أسبوع (وتكرر يوم الجمعة الماضي)؛حين لوّح خطيب مسجد وداعية إسلامي مشهور بتحريك مسيرة مليونية لنصرة "الشريعة"، فيما ظل نظام الإنقاذ، على مدى ثلاثين سنة، نموذجاً لخراب وفساد غير مسبوق؛ يصحُّ معه وصف تلك الدعوة المليونية لنصرة "الشريعة" بأنها محاولة بائسة لاستنساخ نظام الإنقاذ من جديد! لا سيما وقد كان من بين أعضاء المجلس العسكري الانتقالي (حتى وقت قريب) ضباط لهم علاقة وطيدة بنظام الإنقاذ (تم قبول استقالاتهم أخيرا).
خلال الأسبوع الماضي، احتقن خلافٌ على السطح الإعلامي بين المجلس العسكري الانتقالي، وبين قوى إعلان الحرية والتغيير، حول مقدار التمثيل في المجلس السيادي بين المدنيين والعسكريين، وبدا كما لو أنه خلاف أوشك أن يؤدي إلى طريق مسدودة يمكن الاستثمار في تناقضاته من قوى الثورة المضادة؛ لكن غاب عن هؤلاء الأخيرين: أن الاحتقان بين المجلس العسكري الانتقالي وبين قوى إعلان الحرية والتغيير ( رغم خروجه إلى الإعلام، عبر المؤتمر الصحفي الذي عقده المجلس الانتقالي يوم الثلاثاء الماضي 30 أبريل (نيسان) هو احتقان من داخل مربع اللعب المحصور بينهما، فمهما بدا من خلاف بينهما فهو مبنيٌ على اعتراف من المجلس العسكري الانتقالي بقوى إعلان الحرية والتغيير كجهة وحيدة للشراكة معه في إدارة شؤون وترتيبات المرحلة الانتقالية. وهو ما تأكد، بعد ذلك، عندما توسطت شخصيات وطنية وازنة بين الطرفين لتخفيف حدة الاحتقان.
بتسليم قوى إعلان الحرية والتغيير، يوم الخميس الماضي، وثيقة دستورية (قابلة للتعديل) إلى المجلس العسكري الانتقالي؛ لدراستها والرد عليها خلال ثلاثة أيام، يمكن القول إن تلك الوثيقة، التي تضمنت الأطر التي ستحكم مجالس المرحلة الانتقالية الثلاثة (مجلس السيادة، ومجلس الوزراء، والمجلس التشريعي)ــ والتي ستكون بمثابة إعلان دستوري حال الاتفاق عليها، تعتبر اختراقاً تجاوز عقبة المحاصصة ونسب التمثيل في عضوية مجلس السيادة بين العسكريين والمدنيين، التي أوصلت الحوار بين الطرفين إلى طريق مسدودة.
الاعتبار الوازن لقوى إعلان الحرية والتغيير و قدرتها على تحريك الشارع بالملايين (كان الخميس الماضي قد شهد مليونية كبيرة دعت إليها قوى إعلان الحرية والتغيير من أجل السلطة المدنية) هو السلاح الأمضى في إدارة صراع الإرادات مع المجلس العسكري الانتقالي.
قبول قوى إعلان الحرية والتغيير بالتعديل في الوثيقة؛ بما لا يؤدي إلى تبديل في جوهرها، يشي بمرونة واستعداد للتعاون مع المجلس العسكري الانتقالي، لكن رد المجلس العسكري الانتقالي على هذه الوثيقة، الذي سيظهر خلال أيام، سيكون، في تقديرنا، أقل مما هو متوقع من طرف قوى إعلان الحرية والتغيير.
فالمجلس العسكري الانتقالي، فيما هو يحسب اعتباراً وازناً لقوى إعلان الحرية والتغيير، واعترافاً واضحاً بدورها الرئيس والمركزي في ثورة 19 ديسمبر (كانون الثاني) 2018م، إلا أن ما رشح من تصريحات أحد أعضائه- خلال المؤتمر الصحافي الذي انعقد في الأسبوع الماضي- في الربط غير الدقيق بين الانقلابات العسكرية الثلاثة (التي نجحت في الاستيلاء على الحكم بعد استقلال السودان: انقلاب عبود 1958 ـ النميري 1969 ــــ البشير 1989) وبين الأحزاب السودانية (إلى جانب احتجاجه بعدم توقيع الحركات المسلحة على إعلان الحرية والتغيير) عبر قياس لم يستصحب معه الفارق الذي صنعته الثورة اليوم؛ كشف عن تفكير للعسكر بصوت عالٍ ونيتهم في الاستحواذ على السلطة دون انتباه بأنه لولا ثورة ديسمبر (كانون الثاني) 2018م لما أمكن للمجلس العسكري أن يقوم بمهمة الانحياز إلى الشعب (كما درج على وصف نفسه) وبخاصة أمام الضغوط الدولية والأفريقية.
كلما ازدادت أيام الفراغ الدستوري في السودان، كان العسكر أقرب إلى التمكُّن في السلطة (رغم تحذيرات الاتحاد الأفريقي وإمهاله شهرين فقط لتسليم السلطة إلى مدنيين).
فالعسكر فيما ظلوا يناورون في حوارهم مع قوى إعلان الحرية والتغيير، عبر مفاوضات بدت متقطعة ومتعثرة، ربما راهنوا على الوقت بدخول شهر رمضان (إلى جانب أوراق عديدة)، لكن المزاج الثوري العنيد الذي كشف الثوار، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن تدابير خلاَّقة ولا متناهية في تجريب خياراتهم؛ سيكون باستمرار بمثابة العصي في دولاب عجلة العسكر. إلى جانب حالة الوعي التي تنتظم قطاعات الشباب و" قوة رأسهم " المفتوحة على أقصى استعداد في مواجهة العسكر.
لا تعوز المجلس العسكري الانتقالي تدابير للالتفاف على الأطر التي وضعتها الوثيقة الدستورية المقترحة لتقييد سلطة السيادة بصلاحيات المجلس التشريعي، لكنها ستكون، في تقديرنا، تدابير مكشوفة وتنطوي على مغالطات. ذلك أن الشرعية التي مثلتها القوات المسلحة في إزاحة البشير لا تزال وحدها تملك القوة المسلحة والنظامية، ما يعني أن قوة الإمكان للعسكر، في حال أرادوا الانفراد بإدارة السلطة، ستظل هي الوازنة وممكنة الاستخدام في كل الأحوال، ولا يحد من استخدامهم المتعسف لتلك السلطة إلا النزاهة والقناعة بمبادئ ثورة 19 ديسمبر (كانون الثاني) 2018م. وغني عن القول إن هذا مما يمكن رصده ومعرفته، وسيدركه الجميع في الأيام المقبلة دون أي خوض في التكهنات.
في المقابل، أصبحت اليوم إمكانات قوى إعلان الحرية والتغيير، وقدرتها على اختيار تدابير مقاومة أخرى لإجبار العسكر على التوافق معهم؛ أكثر واقعية وفعالية؛ كالإضراب العام والعصيان المدني.
وفي حال موافقة العسكر (وإن بتعديل لا يمس جوهرها) على الوثيقة الدستورية لقوى إعلان الحرية والتغيير سيكون من مفاعيل ذلك؛ انحلال المجلس العسكري والكف عن التعبير عن نفسه كمجلس عسكري؛ بسبب الهيكلة الجديدة للسلطة الانتقالية، كما سيعني ذلك بالضرورة، تحللُ أحزاب قوى الحرية والتغيير واشتغالها على الإعداد لانتخابات ما بعد المرحلة الانتقالية. وهذا الواقع سيكون اختباراً صعباً للعسكر وعاديات تفكيرهم النظامي الجمعي. وإذا ما بدت مفضوحةً؛ دعوات الثورة المضادة التي تستثمر في شعارات من قبيل: العودة إلى "الشريعة "، فإن تربصها للعودة والحلول بلبوس آخر في أي فراغ ينشأ من القطيعة بين المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير ، سيظل يقظاً وباقياً.
وفي ظل ولاءات أيديولوجية متمانعة للأحزاب على حساب فكرة الوطن والمواطنة؛ يظل الاستماع إلى صوت حكماء سودانيين قلوبهم على الوطن، هو "واجب الوقت" لدى كل من المجلس العسكري الانتقالي وقوى إعلان الحرية والتغيير؛ لتجنيب السودان خطر سيناريوهات ممكنة الحدوث وباهظة الأثمان!