في حوار أجراه معه كاتب هذه السطور في الدوحة قبل سنوات قليلة من رحيله ونشر حينها، قال عمر الشريف، نجم النجوم العرب، عن هوليوود ومرحلة عمله فيها كلاماً قاسياً لم يشأ حينها أن يفصله واعداً بمناسبة أخرى يحكي لنا فيها، "حكاية لم يسبق لي أن رويتها". لكن الفنان مات وتلك المناسبة لم تحل أبداً وطوى النسيان ما كنا قد وُعدنا به. ولكن منذ فترة، وفيما نقلب في مذكرات كتبت عن السينمائي ويليام وايلر، أحد عمالقة العصر الذهبي لهوليوود، ومخرج واحد من الأفلام "الهوليوودية" التي كنا نسينا أن عمر الشريف كان بطلها لفرط ما أحيط به من صمت وغطى عليه تماماً فوز بطلة الفيلم المغنية باربارا سترايسند بأوسكار أفضل ممثلة لذاك الفيلم الذي كان أول ظهور سينمائي حقيقي لها، ونعني بذلك فيلم "فتاة مرحة" أو "فاني غيرل"، وجدنا في تلك الذكريات ما نعتقد أنه الحكاية التي كان نجمنا العربي الكبير يريد أن يحكيها لنا. ومع ذلك لم يكن هو بطل الحكاية، بل باربارا سترايسند نفسها شريكته في بطولة الفيلم، وبخاصة المخرج ويليام وايلر الذي ظل الشريف يذكره بالخير دائماً، بينما يعلن عدم رضاه عن حضوره هو نفسه في الفيلم.
دور غير لائق
بالنسبة إلى هذا الجانب الأخير، كان واضحاً أن الفنان الذي كان قد أبدع في "لورانس العرب" و"دكتور جيفاغو" ما كان من شأنه أبداً أن يرضى عن الدور الذي لعبه في "فتاة مرحة"، دور رسم لمجرد أن يعطي باربارا سترايسند مجالاً للبروز عرفت هي كيف تلتقطه بروعة. بيد أن الحكاية الحقيقية لم تكن هنا.
الحكاية بدأت حين كان وايلر يبحث عن نجم يقوم في الفيلم بدور وكيل الأعمال الذي ينتهي به الأمر إلى الوقوع في غرام النجمة الجديدة (سترايسند) فيما تصعد هي سلم المجد راقصة مغنية ممثلة تشمخ بنسوية يريد الفيلم أن يقول إنها ترتبط بكونها امرأة يهودية قوية. وهو ما كانته سترايسند في حياتها الحقيقية ويريد الفيلم التركيز عليه بمساعدة المخرج الذي كان بدوره شخصية يهودية قوية وأحد أعمدة الجناح التقدمي في هوليوود كما سوف نرى. وكان دور وكيل الأعمال قد عرض مسبقاً على كبار من طينة كاري غرانت ومارلون براندو وغريغوري بيك وحتى شون كونري الذي كان في عز نجوميته حينها، لكن أياً منهم لم يرضَ بلعب الدور معتبرينه "ثانوياً". ثم ذات يوم التقى وايلر عمر الشريف فصرخ من فوره "وجدته!" وتم توقيع العقد وبدأت التحضيرات في وقت راح الشريف يستوعب الدور أكثر وأكثر ويجده خطوة جيدة على طريق بناء نجوميته. ولكن هنا وقع ما ليس في الحسبان؛ اندلعت حرب "الأيام الستة" وقررت الأستوديوهات المنتجة أنه من الضروري الآن استبدال عمر الشريف "إنه مصري ولا يجب أن نعطي فرصة لمصري!" قال مسؤولوها. ولكن هنا حدث أيضاً ما لم يكن متوقعاً.
باربارا تهدد وتعتكف
من دون تردد أعلنت باربارا سترايسند أنها ستترك الفيلم إن استبدل عمر الشريف. واعتكفت لتجد أقوى دعم لها لدى المخرج ويليام وايلر الذي أعلن بدوره أنه سيترك الفيلم إن لم يتابع الشريف دوره فيه. ونعرف أن الأستوديوهات تراجعت وأنجز الفيلم. ولكن منذ عرضه راح التعتيم من حول هذا الأخير يكبر إعلامياً وفنياً بصورة مدهشة. ونُسي حضور الشريف في بطولته تماماً ولم يذكر في أي ترشيح للفيلم في أي أوسكار، بينما أُحيطت باربارا بقدر هائل من الدعاية واعتبر انتصارها الأوسكاري في فيلمها الأول ذاك "معجزة فنية حقيقية". وكذلك كان انتصار وايلر كبيراً، بينما ظل عمر الشريف يذكره بالخير طوال حياته لـ"موقفه الشجاع ضد الأستوديوهات واللوبيات العنصرية".
وايلر الفرنسي
يقودنا هذا هنا إلى ويليام وايلر الذي على عكس ما قد يوحي به اسمه، خصوصاً أسلوبه السينمائي وموضوعاته التي تبدو غارقة في الرؤية الأميركية ومشبعة ببقايا الحلم الأميركي، لم يكن أميركي الأصل، بل كان فرنسياً، وبالتحديد من مواليد شرق فرنسا، في مدينة ميلوز. مهما يكن فإن قلة من الناس فقط كانت تعرف هذه الحقيقة، ليس لأن الرجل كان يخفيها، بل لأن أفلامه كانت من البداهة والوضوح والرسوخ في واقع الفن السابع الهوليوودي، إلى درجة انتفت معها الحاجة إلى التنقيب عن أصل غير أميركي له.
وهكذا حين رحل وايلر عام 1981، فوجئ كثيرون بأن صاحب "فتاة مرحة" و"بن هور"، وكان أسوأ أفلامه، لكنه أشهرها بالطبع، بسبب سباق العربات الرومانية فيه، و"جامع الفراشات"، وخصوصاً "أجمل سنوات حياتنا" لم يكن أميركياً خالصاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فإذا كان يمكن أن يقال عن عدد محدود من مخرجين آخرين، غير أورسون ويلز، إنهم عملوا طوال حياتهم على اختراع وإعادة اختراع السينما، سيكون في مقدمهم ويليام وايلر، الذي استوعب هوليوود باكراً وأدرك خصائص السينما الأميركية ودخل لعبتها في عدد كبير من الأفلام التي أثارت من حوله، ليس فقط إجماع الجمهور، بل والنقاد، لا سيما الأوروبيون منهم، حيث باكراً انبهر أندريه بازان، أبو النقد الفرنسي، وجماعة "مجلة السينما" بفيلمه "أجمل سنوات حياتنا" الذي أتى ليجدد، ليس فقط على صعيد الموضوع، بل كذلك على صعيد الشكل، تماماً مثلما فعل أورسون ويلز في "المواطن كين" عبر استخدام فن اللقطة "المشهد"، وعمق الصورة، وما إلى ذلك من تجديدات مؤثرة كان يمكن أن تفوت ملاحظتها المتفرج العادي، لكن عين الناقد كانت تدركها بسهولة.
نجاح تجاري لافت
ولكن، إذا كان أصحاب جوائز "الأوسكار" الشهيرة خصوا وايلر بـ3 أوسكارات وهو أمر ندر حدوثه بالنسبة إلى مخرج واحد، فإن دافعهم إلى هذا التكريم الاستثنائي كان نجاح أفلام وايلر التجاري، أكثر مما كان دافعهم لغته السينمائية الاستثنائية في الصورة ويليام وايلر يصور أحد أفلامه.
ولد وايلر، إذاً، من عائلة سويسرية الأصل، وتلقى دراسته الثانوية ثم الجامعية في لوزان وباريس، وفي أواخر العشرينيات توجه إلى نيويورك حيث عمل، لإجادته لغات عدة، في قسم الدعاية الخارجية لشركة "يونيفرسال". من هنا كان من السهل عليه بسرعة أن يتجه بعد ذلك إلى هوليوود، وتقلب في عالمها السينمائي في عدة أعمال قبل أن يصبح مساعداً للإخراج، ثم مخرجاً لأكثر من 50 فيلماً قصيراً من أفلام رعاة البقر بين 1925 و1927.
وكان ذلك بالنسبة إليه تدريباً قوياً مكنه في عام 1933 من أن يخرج فيلمه الطويل الأول "مستشار قانوني"، وكان فيلماً حقق من النجاح ما مكنه من تحقيق سلسلة من الأفلام الناجحة بعده، بينها تحف هوليوودية لا تنسى مثلت بيتي ديفز أدوارها الرئيسة، مثل "جزابيل"، و"الرسالة"، و"الذئاب الصغيرة" الذي سيظل لفترة طويلة واحداً من أجمل وأنجح أفلامه، وسيتميز بالصورة الرائعة التي حققها له غرينغ تولاند، الذي لن يرحل في عام 1948، إلا وقد صور له فيلم "أجمل سنوات حياتنا" الذي حصل له على ثاني جائزة أوسكار بعد ما كان "السيد مينفر" 1942 حصل له على الأولى، بينما سيحصل "بن هور" على الثالثة.
لكن وايلر لم يكن مخرج جوائز فقط، بل كان مخرج أفلام ممتعة أيضاً. ولئن ذكرنا بعض أفلامه، فإن بإمكاننا أن نكمل اللائحة، بأفلام مثل "حسناء ممفيس" 1944، الذي كان خلال الحرب العالمية الثانية واحداً من أجمل الافلام التسجيلية الهوليوودية. وفي الخمسينيات كان فيلم "إجازة في روما" من تمثيل أودري هيبورن (وهو الفيلم الذي اقتبس منه الفيلم المصري "يوم من عمري" من تمثيل وغناء عبد الحليم حافظ)، ثم فيلم "البلاد الفسيحة" 1958. أما في الستينيات فكانت "خبطة" ويليام وايلر الموفقة مع "جامع الفراشات" عن رواية جون فولز، من تمثيل سامنثا إيغار وتيرنس ستامب، وهو الفيلم "المثالي" في نظر النقاد، الذي حمل موضوعاً قاسياً في ديكور شبه وحيد، ومع شخصيتين: جامع الفراشات المهووس بحب فتاة ينتهي به الأمر إلى خطفها وسجنها، والفتاة التي لن نفهم أبداً ما إذا كانت تحبه أم لا.
وكان آخر ما حقق وايلر، فيلم "فتاة مرحة" الذي أحس معه أنه متراجع فقرر معها أن يتوقف عن العمل. فتوقف بعد فترة. وحين رحل قال المؤرخون، لقد رحل آخر عمالقة هوليوود الذهبية. كما ترحم عليه عمر الشريف من دون أن يعرف أحد يومها لماذا!