باكو، عاصمة أذربيجان، هي المدينة التي تتمتع بالمركز الأول في أمور كثيرة في عالم النفط. ففيها حفرت أول بئر نفط سطحية في القرن الخامس عشر، وفيها حفرت أول بئر نفطية بالمفهوم الحديث واكتشاف النفط بكميات تجارية في عام 1848، قبل اكتشافه في الولايات المتحدة بنحو 11 سنة. وتم حفر أول بئر نفط في قاع البحر في باكو في عام 1923. وفي باكو تم بناء أول أنبوب نفط في العالم في عام 1907.
كل ما سبق كان مقدمة لأهم نقطة لمقال اليوم: في باكو تم بناء أول ناقلة نفط متخصصة في العالم، ومنها انطلقت التجارة العالمية في النفط باستخدام الناقلات، في شتى أنحاء المعمورة. وتم بناء "زوروستار"، من قبل السويدي لدويك نوبل، شقيق ألفريد نوبل صاحب الجائزة المشهورة، في 1878. وكان السبب الأساس لبناء هذه السفن هو تفادي استخدام البراميل وعلب الصفيح في نقل النفط لمشكلاتها الكثيرة، بما في ذلك ارتفاع التكاليف. وبعد نجاح تجربة "زوروستار" في نقل النفط، قامت مجموعة نوبل بطلب ثمانية ناقلات أخرى. وسيطرت عائلتان على أغلب تجارة النفط في تلك المنطقة وقتها، نوبل وروثتشايلد، وكلتاهما أشهر من علم في رأسه نار.
في تلك الفترة كان المنتج الأساسي من النفط هو الكيروسين، والذي كان يستخدم في الإضاءة. لذلك بنيت أول سفينة لنقل الكيروسين. سفن عائلة نوبل وصلت في النهاية إلى لندن، ولكن بعد نشر الخوف والهلع في طريقها بسبب الإشاعات التي سبقتها بأنه يمكن أن تنفجر أو تشتعل في أي لحظة، وتدمر البيوت على جانبي النهر أو على شاطئ البحر. وصول الكيروسين إلى لندن أزعج شركة "ستنادارد" الأميركية، فشنت حرب أسعار جعلت عائلة روثتشايلد توافق على تخفيض حصتها في السوق الأوروبية، الأمر الذي جعلها تبحث عن أسواق أخرى.
شركة "شل"
مع اقتناع صناعة النفط العالمية بجدوى ناقلات النفط، انتشرت بشكل كبير، إلا أن ذلك أوقع الشركات المنتجة في باكو في مأزق: لا يستطيعون منافسة الشركات الأميركية في آسيا لأن على سفنهم أن تدور حول أفريقيا، وهذا قبل المرور في أراض وبحار وأنهار للوصول في النهاية إلى المحيط الأطلسي.
في تلك الفترة تم افتتاح قناة السويس، والتي كانت ممّولة من مجموعة من المستثمرين، بما فيها حكومات أوروبية، أهمها بريطانيا. ونظراً لأن الكيروسين سريع الاشتعال، قررت إدارة القناة منع السفن المحملة به، أو بأي مادة نفطية، من المرور بالقناة، خوفاً من الانفجار أو الحريق في حال حصول حادث.
أدركت عائلة روثتشايلد أن السوق البديلة للتوسيع في أوروبا هو آسيا، ولكن ليست لها علاقات آسيوية، فاستعانت بماركوس سامويل، وهو ابن عائلة يهودية عراقية هاجرت إلى بريطانيا. كان سامويل يتاجر بأشياء كثيرة وله معرفة جيدة بالدول الآسيوية، بخاصة الصين. أدرك ماركوس أن منافسة الأميركيين في آسيا تتطلب أمرين، الأول أنه يجب شحن النفط بناقلات كبيرة لتخفيض التكلفة. والثاني أنه يجب أن تمر هذه الناقلات في قناة السويس.
وبما أن قناة السويس لا تسمح بمرور السفن محملة بالكيروسين، قام ببناء سفينة بمواصفات جديدة وآمنة، وحاول إقناع إدارة القناة بها. كل هذا كان تحت اسم شركة "شل"، وهي شركة النفط العالمية المعروفة الآن بالاسم نفسه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
فشل ماركوس في إقناع إدارة القناة. فلجأ إلى الحيلة! عائلة روثتشايلد، مالكة النفط الذي تريد أن تبيعه في آسيا، هي التي مولت الحكومة البريطانية لشراء أسهم في شركة قناة السويس، والحكومة البريطانية في إدارة مجلس القناة، فإذا تم الضغط على الحكومة البريطانية، فإنها ستقنع مجلس إدارة القناة بالسماح بمرور سفن شركة "شل". مع هذا رفض مجلس القناة السماح لها بالعبور إلا إذا وافقت شركة "لويد" للتأمين!
كان ماركوس محظوظاً. فرئيس الشركة التي بنت السفينة لشركة "شل" عضو في مجلس إدارة "لويد". وعن طريقه تم إقناع الشركة بالموافقة. على الرغم من ذلك لم يوافق مجلس إدارة شركة قناة السويس. وبعد دراسة الأمر وضعوا شروطاً ومواصفات لحاملات النفط التي يمكن أن تعبر القناة. الغريب في الأمر أن هذه الشروط والمعايير هي نفسها التي وضعتها شركة "لويد"، ولا تنطبق إلا على سفن شركة "شل"! وبدأت حاملات النفط التابعة للشركة تعبر القناة، وبذلك أنهت قناة السويس احتكار شركة "ستنادارد" الأميركية لتجارة النفط العالمية. وهكذا ولدت شركة "شل": عن طريق الصُدفة، واسم الشركة يعني "الصَدَفة"!
ودار الزمن، وبعد مرور مئات الآلاف من ناقلات النفط خلال 12 عقداً، توقفت قناة السويس، ليس بسبب ناقلة نفط كما كان يتخوف أول مجلس إدارة لقناة السويس، ولكن بسبب سفينة بضائع اسمها "إيفر غيفن". هذه السفينة هي التي أوقفت مرور العشرات من ناقلات النفط!
صافر
عند الحديث عن قناة السويس والنفط، وتخوّف أول مجلس إدارة من انفجار ناقلة نفط في القناة، فلا يمكننا تجاهل "صافر"، الخزان النفطي العائم قرب ميناء الحديدة بالقرب من باب المندب. إذا كانت قناة السويس هي البوابة الشمالية للبحر الأحمر، فإن باب المندب هو بوابته الجنوبية.
الخزان يحتوي على 1.14 مليون برميل من النفط، ولم يخضع لأي عمليات صيانة منذ مارس (آذار) 2015 عندما دخل الحوثيون إلى المنطقة. ونتيجة لعوامل التآكل والصدأ، وتراكم الغاز في الخزان، فإن هناك تخوفاً كبيراً من انفجاره أو احتراقه وانسياب النفط.
الفكرة هنا أن انتهاء أزمة "إيفر غيفن" لا يعني بالضرورة انتهاء مشاكل العبور في القناة. فانفجار صافر وانسياب النفط قد يوقف جزءاً من الملاحة في القناة، على الرغم من أن المسافة بينهما أكثر من 2000 كيلومتر.
ولعل المأساة أن أول مجلس إدارة للقناة كان يتخوف من انفجار الناقلة بسبب حادث في القناة، ولكن ما قد يوقف أغلب الملاحة في القناة هو الإهمال، في مكان بعيد عنها. ومن غرائب الأمور أن انسياب النفط هو الذي سيمنع ناقلات النفط من العبور!