خمسة أفلام لمارون بغدادي على "نتفليكس"! هذه مبادرة تستحق الإشادة والاحتفاء بها. المنصة الإلكترونية اختارت لمشاهديها عملان وثائقيان وثلاثة أعمال روائية للمخرج اللبناني الراحل، هي، "بيروت يا بيروت" و"كلنا للوطن" و"همسات" و"حروب صغيرة" و”خارج الحياة". 16 سنة هي الفترة الزمنية التي تفصل العمل الأول عن الأخير، بنى خلالها بغدادي (1950 - 1993) فيلموغرافيا لا تزال محل إعجاب، ولو أنها تبث شعوراً بأنها ناقصة، بسبب الرحيل المبكر والمفاجئ لمخرجها. نال بغدادي تقديراً خارج بلاده، خصوصاً في فرنسا التي شاركت في إنتاج أفلامه، وحاز جائزة لجنة التحكيم الخاصة في مهرجان "كان" عن "خارج الحياة" في العام 1991، لكن، كثراً من المشاهدين من الأجيال الجديدة، لا يعرفون عمله، وها إن "نتفليكس" تفسح لهم المجال للاكتشاف، وتعود لنبش ذاكرة بغدادي، فتنبش معها في سيرة غير مكتملة وأفلام شبه منسية، لعلنا نفهم بعضاً مما حصل في لبنان خلال عقود لم نطو صفحتها بعد، لا بل نرزح تحتها.
أفلام بغدادي قاومت الزمن، ولا بد من العودة إليها لنفهم بعضاً مما يضمره الواقع اللبناني الذي لم يتغير كثيراً منذ السبعينيات، في وطن لا يكف عن تكرار مآسيه وكتابة التاريخ نفسه بأسماء جديدة. يكاد لا يوجد فيلم له ليست الحرب معاناة شخوصه وناسه وأبطاله. نقل بغدادي المعضلة اللبنانية بتعقيداتها، مصوراً جنون تلك المرحلة التي أخذت البلد رهينة للوحشية والهمجية.
18 عاماً
قدّم بغدادي، خلال مسيرته السينمائية التي امتدت على نحو 18 عاماً، 18 فيلماً بين روائي ووثائقي، مشكّلاً مع برهان علوية وجان شمعون نواة ما يمكن اعتباره تياراً جديداً أجبر السينما المحلية أن تتمسك بنظرة ذاتية وعميقة ذات مضمون راسخ في تقليد سينما المؤلف الأوروبية. قطع هذا التيار مع كل ما جاء من قبله من أعمال تجارية ساذجة تحاكي الجماهير. وشكل اندلاع الحرب نقطة انطلاق أخرى بالنسبة إلى منجز بغدادي، علماً أن مصيره الشخصي بات مقترناً بالأحداث وتداخلت حياته بما عاشه من قرب، إلى أن انكسرت الأحلام ليلة سقوطه في فراغ بيروت وعتمتها القاتلة، غداة النهاية الرسمية للحرب اللبنانية.
من أفلام صغيرة تعكس هموم المواطنين، انتقل بغدادي إلى الحضن الدافئ للسينما الروائية مع "بيروت يا بيروت" (1975) الذي عُرض يومين قبل حادثة بوسطة عين الرمانة. تجري الأحداث في أعقاب الصراع العربي - الإسرائيلي عام 1967، حيث يستكشف أربعة شباب لبنانيين حياتهم في ظل تغير متسارع للجبهات السياسية. ثم جاء "حروب صغيرة" (1982)، الفيلم الذي رتّب له مكاناً خاصاً في تاريخ السينما اللبنانية وكرسه مؤلفاً. جاء الفيلم عشية حصار بيروت وسقوطها خلال الاجتياح الإسرائيلي. بعدها بفترة، استقر بغدادي في فرنسا، حيث أنجز ستة أفلام روائية منها ثلاثة للتلفزيون، قبل أن يعود إلى بيروت ليصور "خارج الحياة" (1991) عن مصور فرنسي (إيبوليت جيراردو) يؤخذ رهينة. يختتم الفيلم بسيارة تمضي وسط الخراب الهائل الذي صنعته الحرب، ثم يصعد الجنريك الأسود فجأةً تاركاً المُشاهد في ضياع كلي.
بحسب ثريا خوري (بغدادي) التي مثلت في "حروب صغيرة" قبل أن تتزوج من المخرج، كان بغدادي يريد أن ينجز فيلمه هذا قبل التاريخ الذي أنجزه فيه، لكن منعته الأحداث. في غضون ذلك، ذهب إلى الولايات المتحدة وزار "زويتروب" استوديوهات فرنسيس فورد كوبولا، وكاد أن يكون مساعد مخرج على فيلم "باب الجنة" لمايكل تشيمينو. وعندما عاد لينجز الفيلم، كان يقول لفريق العمل متباهياً، "انظروا إلى المشروع الذي تخليتُ عنه للعمل معكم"، جاعلاً إياهم يشعرون بنوع من الامتننان تجاهه.
سيرة مختصرة
في سياق الحديث عن أفلامه، قد يكون من المفيد أن نعرف عن الخلفية التي يأتي منها بغدادي، هذا المسيحي الأرثوذكسي الذي خرج من معطف الطائفية بجهد شخصي. في صباه، حلم بالرهبنة، إذ إن علاقته بالدين كانت قوية. ثم انكسرت العلاقة تلك، فانتقل للعيش في بيروت الغربية حيث أكثرية مسلمة، الأمر الذي عاتبه عليه بعض المسيحيين. ثم، انضم إلى الحركة الوطنية وغازل الماركسية. كانت لديه اهتمامات متعددة، منها الصحافة، لكن تخلى عنها تدريجاً لمصلحة السينما. أتقن الانتقال من مرحلة إلى أخرى من حياته. مع الوقت، تحرر أيضاً من اليسار ليذهب نحو مزيد من الحرية الفكرية.
اذا فُرض عليّ اختيار فيلم واحد من الخمسة المعروضة "نتفليكسياً"، فسيكون "حروب صغيرة" الذي صوره بغدادي في عز الحرب. بهذا الفيلم، قفز قفزة كبيرة في مجال السينما الروائية بعد مجموعة أفلام وثائقية، من خلال تسجيل يوميات النزاع بعيداً من النزعة الأيديولوجية التي كانت على الموضة في تلك المرحلة، مفضلاً الانغماس في تصوير تلك الحروب الصغيرة التي تُدار داخل الحرب الكبيرة. عندما عُرض الفيلم في "كان" (1982)، ضمن قسم "نظرة ما"، كتب جاك سيكيلييه، ناقد جريدة "لو موند"، من ضمن ما كتبه، "ما فعله بغدادي هنا، إنما هو اختراع السينما اللبنانية". مع هذا الفيلم، اكتملت شخصية بغدادي السينمائية، مع الإشارة إلى أن البصمة الأوروبية واضحة، فنحن في نهاية المطاف أمام إحدى تجليات سينما المؤلف التي بدأت تتحوّل عندنا من فكرة مبهمة إلى شيء ملموس مع وصول بغدادي وسينمائيي جيله. لم ينجز بغدادي فيلماً عن الحرب بالمعنى الكلاسيكي للكلمة. إنه بالأحرى فيلم شاءت الظروف اللبنانية أن تموضعه في قلب هذا المأزق الكبير الذي تم التعريف عنه بـ"حروب الآخرين على أرضنا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الشعار الذي يبدو أن الفيلم لا يؤمن به كثيراً. من خلال ابتعاده عن خطوط النار والسياسة، ركز الفيلم على الحالات الإنسانية لأفراد سنرى على وجوههم تدريجاً آثار الحرب المدمرة. فإلى الحرب الطاحنة الدائرة بين المسلحين، هناك الحروب الصغيرة الفردية التي لا تتوقف. لعبة الأقدار والمصائر هي التي نالت الحصة الأكبر وسط فوضى الانقسامات والمطامع التي كانت بدأت تسحق المجتمع اللبناني، وتبشر بحلول الأسوأ. في حديث لي مع ثريا خوري بغدادي، تتذكر، "كان هذا واقعنا اليومي، دائماً هناك مسلحون يرافقوننا، دائماً نحن في حال الخطر. كنا نسرق اللقطات سرقة. كان هناك أجانب في طاقم العمل، لم أكن أفهم كيف تجرأوا على العمل في ظروف مماثلة. كنا نعيد كثيراً خلال التصوير، ولكن في حدود المعقول. كنا نتمرن كثيراً قبل التقاط المشاهد".
لم يخفِ بغدادي خوفه من الموت، خصوصاً من موت الآخرين، ويتبدى هذا جلياً في كتاباته الكثيرة المحفوظة في دفاتر تقول زوجته بأنها لا تزال تحتفظ بها. اللافت أيضاً التقارب بين حياته وعمله السينمائي. هناك مرحلة في حياته، لم يكن يعرف بعد أيهما يفضل، الحياة أو السينما. كان يقول إنه في مرات معينة يجد فيها السينما أقوى من الحياة، وفي مرات أخرى يجد العكس. عندما تم إعداد تكريم صغير له على هامش مهرحان "كان" قبل بعض سنوات، اختزل الناقد المصري سمير فريد تجربة بغدادي بالآتي، "كان يعيش بسرعة، شأنه شأن فاسبيندر وكل الذين يشعرون أن الوقت يدهمهم. أراد أن يتزوج وينجب الأولاد وينال "السعفة" ويربح 100 مليون دولار. هناك مقولة يرددها الفلاحون في صعيد مصر دائماً، ابن الموت. هكذا كان بغدادي".