تلعب مدينة مصراتة الليبية، الواقعة على بُعد 200 كيلومتر شرق العاصمة طرابلس، دوراً محورياً في المشهد الليبي منذ اندلاع ثورة فبراير (شباط) في العام 2011، ولا يزال الكثيرون يعتبرونها اللاعب الأهم والمدينة صاحبة الدور الحاسم في معركة طرابلس الفاصلة، التي اندلعت قبل أسابيع، عقب إعلان القائد العام لـ "الجيش الوطني" خليفة حفتر، إطلاق عملية عسكرية لدخول العاصمة.
النفير والمواجهة
وفور تحرك قوات "الجيش" نحو طرابلس، تحركت جميع التشكيلات العسكرية في مصراتة لتشارك في صد الهجوم على العاصمة. وكان ذلك متوقعاً من مدينة رفعت لواء العداء لمشروع حفتر، منذ انطلاقه في بنغازي في العام 2014، وأرسلت من مينائها مراكب محملة بالسلاح والمسلحين، لمساندة مجموعات تقاتل "الجيش الوطني" في بنغازي ودرنة (شرق). كما خاضت قوات مصراتة معارك ضد "الجيش" للسيطرة على الهلال النفطي، لم تحقق بها النجاح على الرغم من تكرار المحاولات.
وأسهم في تنامي العداء بين "الجيش الوطني" وقائده ومدينة مصراتة، تمركز تيارات إسلامية منوّعة سياسية ومسلحة في المدينة، حتى باتت مقرهم الرئيس. ويقع في مصراتة مقر حزب الإخوان المسلمين وعدد كبير من الكتائب المسلحة التي تدور في فلكه، كما تضم المدينة تشكيلات ينتمي مسلحوها إلى تنظيم "القاعدة" المتطرف.
دور حاسم
وتعتبر قوات مصراتة عمود القوات الموالية لحكومة الوفاق التي يترأسها فائز السراج في طرابلس، ولعبت حتى الآن الدور الأكبر في تأخير بسط سيطرة "الجيش الوطني" على العاصمة، لكثرة عديدها وعتادها وجودة تسليحها وتدريبها وخبرتها في حرب المدن، بعدما خاضت معارك شرسة ضد تنظيم "داعش" في مدينة سرت وسط البلاد، كانت بدأت في العام 2016 واستمرت سنة كاملة.
وأدركت مصراتة حتى قبل إعلان "الجيش الوطني" انطلاق عملياته العسكرية في طرابلس، رغبة حفتر في السيطرة على طرابلس تحديداً، بعدما أنجز معارك الجنوب، وتفرغ للعاصمة التي يعلم هو وخصومه، أن دخولها يعني التحكم بليبيا كلها. وقبل شهر من معركة طرابلس، أصدرت الألوية العسكرية والمدنية في مصراتة، بياناً استباقياً عبرت فيه عن رفضها أي مشروع عسكري للسيطرة على البلاد. وكانت مفردات البيان حادة وتنذر بما هو آتٍ قبيل تحرك الجيش في اتجاه الغرب. ورفض البيان "العودة إلى حكم الفرد وعسكرة الدولة"، معرباً عن رفض مطلق للوسائل التي يتخذها من وصفه بـ "المنقلب على الشرعية المدعو حفتر"، للوصول إلى الحكم والسيطرة على مفاصل الدولة. وجاء في البيان "لن نسكت على ما اقترفه هذا المجرم من ظلم وعدوان، ولن نسمح بعودة الدكتاتورية".
تسليح كتائب المدينة
وسيطرت كتائب مصراتة وميلشياتها، بعد سقوط نظام العقيد معمر القذافي، على أهم مخازن السلاح في ليبيا، بسبب تمركزها في المنطقة الغربية التي وقعت كلها آنذاك بيد مسلحيها، فتحولت بذلك من عاصمة التجارة والمال كما كان يُعرف عنها، إلى عاصمة للسلاح والمسلحين، حتى وصِفت "بدولة داخل الدولة". وأمنت لها قوتها العسكرية هيمنةً كاملة على مفاصل القرار السياسي والاقتصادي في العاصمة، ولم تنازعها عليها إلا قوات مدينة الزنتان، التي عمدت قوات مصراتة إلى طردها من طرابلس بعد معارك شرسة في العام 2013، نجمت عنها حادثة حرق أكبر مطارات البلاد.
دفاعاً عن المكاسب
لهذا يرى مراقبون أن مصراتة تدافع اليوم في طرابلس عن المكاسب والامتيازات التي حققتها، وهي تعلم أن حفتر يسعى إلى انتزاعها منها، ويخوض مسلحوها "معركة دفاع متقدمة" عن مدينتهم، على بعد 200 كيلومتر منها، وهم يملكون القوة العسكرية التي ستطيل أمد حسم معركة العاصمة.
وتشير التقارير إلى اعتماد مصراتة على قوة من 32 ألف رجل ومئات الدبابات والمدافع المتنوعة وآلاف الآليات العسكرية التي تحمل أسلحة متوسطة من النوع المضاد للطائرات. كما تملك طائرات عدلت موازين القوى مع "الجيش الوطني"، الذي كان متفوقاً جوياً على خصومه، مع العلم أنها حجّمت دور طائرات "الجيش"، بامتلاكها مضادات أرضية أسقطت إحدى هذه الطائرات قبل أيام.
"عاصمة الإخوان" والدعم التركي
ولجأ تنظيم الإخوان المسلمين - فرع ليبيا، الى توثيق علاقته بمدينة مصراتة، عقب سقوط نظام القذافي باتخاذه إياها مقراً رئيساً للحزب، على الرغم من أن مصراتة ثالثة أكبر مدن ليبيا بعد طرابلس وبنغازي. ويرى مراقبون أن السبب يعود إلى رغبة التنظيم في الاستفادة من القوة العسكرية التي حازتها المدينة، وتوجيهها ضد خصومه في ليبيا، وهو ما حدث بعد ذلك.
وتمكن "الإخوان" في فترة وجيزة من مد جسر العلاقات المتينة بين مصراتة وتركيا، تعزيزاً لسيطرتهم عليها. ولم تتأخر تركيا في دعم مصراتة عسكرياً واقتصادياً، لتؤمّن موطئ قدم لها في ليبيا وتالياً الاستفادة من ثرواتها الضخمة ومشاريعها المستقبلية. وسهّلت لها الأمر عودة أصول نصف سكان المدينة إلى العنصر التركي الذي احتل ليبيا مئات السنوات إبان العهد العثماني. واستغل الأتراك مصراتة لصد مشروع حفتر المعادي لتيار الإسلام السياسي في ليبيا.
الدعم الآتي من روما
في سياق متصل، ذكرت قناة "راي نيوز" الحكومية الإيطالية قبل أسابيع أن "قوام القوة الإيطالية في قاعدتها في مصراتة هو 400 جندي و130 آلية عسكرية ومركبات بحرية وجوية، كما أنها تقدم الرعاية الصحية والدعم والتدريب والتعليم لقوات الأمن والمؤسسات في المدينة".
ويثير التعاون العسكري بين إيطاليا، المستعمر السابق لليبيا، ومصراتة، حنق الشارع الليبي، في حين يعتبر مراقبون أن روما تستغل المدينة الليبية لحماية مصالحها ومشاريعها النفطية وتعزيزها في البلاد، لعلمها بسيطرة المصراتيين على العاصمة الليبية ومفاصل القرار فيها.
وأظهرت تقارير عدة تجدد هذا الدعم بإرسال ليس أسلحة فحسب إلى مصراتة، بل أيضاً مسلحين إيطاليين يشاركون سراً في المعارك ضد "الجيش الوطني" في طرابلس، وفق ما أعلن الناطق باسمه اللواء أحمد المسماري.