حدث ذلك في أواخر صيف عام 1888 يوم ترك فنسان فان غوخ في السنوات الأخيرة من حياته، إقامته الاستثنائية في محطة القطار في مدينة آرل ليقطن في "البيت الأصفر" الذي كان قد أعده ليكون مكان إقامة لعدد من الرسامين، لكن أحداً لم يقم فيه غيره، ولا حتى غوخان الذي كان "البيت الأصفر" مشروعاً صمم خصيصاً من أجله. في ذلك الحين وبعد سنوات من الانطلاق في رسم المشاهد الخارجية مباشرة على الطبيعة حيث كان فان غوخ يمضي جلّ وقته حاملاً أدواته وألوانه متنقلاً بين مكان وآخر محققاً لوحات لن يعرف العالم قيمتها الحقيقية إلا لاحقاً، وجد الرسام الهولندي المقيم في الجنوب الفرنسي نفسه ذات فترة محجوراً عليه داخل غرفته في "البيت الأصفر" لأسباب خاصة به تتعلق بحساسية تجاه النور الساطع أصابته من ناحية، وبهبوب رياح الميسترال العنيفة التي لم يكن في مقدور صحته الواهنة تحملها. وهنا بعد أيام قليلة شعر خلالها باسترداد بعض من صحته وبراحة جسدية لا بأس بها، اكتشف أن أحسن ما يفعله هو البقاء أياماً أخرى تعده بمزيد من الاسترداد لصحته. ولكن ما العمل وهو المعتاد على أن يرسم يومياً ويكاد يجن إن لم يفعل ذلك؟ ما العمل وهو قد اعتاد أن يرسم في الهواء الطلق وتحت وطأة نور الجنوب الفرنسي الساطع لوحاته الرائعة؟
الأثاث البسيط وروحه المركبة
في الحقيقة أن فان غوخ لم يغرق في تفكير طويل ولا في التردد. بسرعة اتخذ قراره وامتشق ريشه وألوانه وراح يرسم. ليس من الذاكرة، فهو لم يستسغ ذلك على الإطلاق. وليس من النافذة فهو لا يجرؤ على فتحها. بل مباشرة داخل الغرفة ليحول أثاث الغرفة وجدرانها وتفاصيلها وحميميتها إلى لوحات فنية كانت بالنسبة إليه إزجاء للوقت ريثما يستعيد خروجه إلى الشمس والهواء وخضرة الطبيعة، لكن تلك اللوحات سوف تصبح بالنسبة إلى العالم كله تحفاً فنية استثنائية لا تشبه أي شيء آخر. أعمالاً تروي حضور الفنان في المكان المغلق الذي سرعان ما سوف يصبح مكاناً منفتحاً على الحياة الداخلية ومجابهة غير عادية مع تلك الأشياء العادية التي قد نمر بها مئات المرات في اليوم الواحد من دون أن تلفت انتباهنا. لكنها كانت بالنسبة إلى فان غوخ كما بقية أشياء الطبيعة وكما العناصر المتنوعة التي قد تشكل ذاكرة ما، شخصيات ومواضيع فنية يتضمن رسمها نوعاً من حوار خلاق معها... حول ذلك النشاط المباغت والاستثنائي كتب فان غوخ في رسالة إلى أخيه ثيو: "لا تزال عيناي متعبتين، لكن ثمة فكرة تشتغل في رأسي وهاك هنا تخطيطاتها الأولية. والأمر يتعلق هذه المرة بما لا يزيد عن غرفة نومي. بيد أن الألوان سوف تقوم هنا بالمهمة الاستثنائية عبر تركيزها بدلالتها على أسلوب يضفي على التفاصيل والأشياء دلالة أكبر من دلالتها الحقيقية، عبر تشديدها على الشعور بالراحة أو بالنعاس بصورة عامة. إن المطلوب من الألوان هنا أن تجعل النظر إلى اللوحة مدعاة للراحة أو بشكل أكثر وضوحاً مدعاة لمخيلة تخلق ذلك الشعور بالراحة. بالنسبة إليّ يتعين على الشكل الذي تتخذه أشياء الغرفة أن يعبر عن راحة ما بعدها من راحة. ومن هنا عمدت إلى إلغاء الظلال جميعها تاركاً الأشياء تظهر في كينونتها اللونية المطلقة".
في مجرى العادة
واضح أن ما يتحدث عنه فان غوخ هنا هو تلك اللوحات التي رسمها في خلال شهور ثلاثة خريف العام الذي حجر فيه، ومن أشهرها ثلاث تحمل العناوين البسيطة التالية: "غرفة فنسان في آرل" (72×90 سم – أكتوبر/ تشرين الأول 1888) و"كرسي فنسان" (93×73 سم- نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه) و"كرسيّ غوخان" (90×72 سم- نوفمبر نفسه). وهي لوحات من الواضح أنها تصور أثاث الغرفة من منظور يعلو بقدر قامة الرسام الذي سيقول أنه اضطر إلى ذلك لأنه لم يكن قادراً على الانحناء. غير أن المهم هنا ليس المنظور بالطبع بل الألوان نفسها، حيث تماشياً مع ما اعتاده فان غوخ خلال تلك السنوات الأخيرة من حياته، كان من الواضح أنه يسبغ على تلوينه أهمية فائقة، وهنا خاصة لأنه وجد نفسه يجابه مشاهد داخلية تبعده عن النور الطبيعي ولكن كذلك عن أي نور مصطنع في الداخل، نراه يلجأ إلى ألوان تبدو قريبة جداً من ألوان الباستيل التي تعيش استقلاليتها من دون أن يوضح لنا الرسام في اللوحة أي مصدر مقترح للنور، فتتساوى كثافة التفاصيل ناهيك بأن الغياب الكلي تقريباً للظلال يوفر المبرر اللازم لغياب مصدر النور.
الطبيعة على رغم الحجر
ولأننا نعرف أن غوخان قد وصل إلى "البيت الأصفر" لينضم إلى صديقه فنسان، في أكتوبر من ذلك العام، بعد أيام من التزام فان غوخ بالحجر المنزلي الصحي، لا شك أنه هو الذي شجع هذا الأخير بأفكاره على "خلق طبيعة داخلية خاصة بفنه"، إذ يجد نفسه غير قادر على العودة، ولو لفترة، إلى الطبيعة الحقيقية يستلهمها، مقترحاً عليه أن يحول تلك المشاهد الداخلية المحدودة إلى فضاء تخييلي عريض من دون أن يتخلى بين الحين والآخر عن رسم مشاهد طبيعية "من الذاكرة" لمجرد بقائه على "احتكاك" بما كان اعتاده منذ سنوات من رسم خارج المنزل. ومن هنا ما يمكن ملاحظته من خلال المقارنة بين اللوحات التي نتحدث عنها هنا وعدد من المشاهد الداخلية التي طبعت بدايات نشاط فان غوخ الفني، كيف أن الطبيعة وألوانها قد بقيت تشكل جزءاً أساسياً من قدرته الرؤيوية حتى حين اضطره الحجر الصحي إلى التزام بيته. فهنا، وفي حقيقة الأمر، لن يفوت مُشاهد هذه اللوحات الداخلية أن يلاحظ الفوارق شاسعة بين لوحات المرحلتين الداخلية، بحيث يبدو وكأن المسطحات الداخلية المرسومة في "غرفة فنسان" و"كرسي فنسان" و"كرسي غوخان" تبدو وكأنها امتدادات لمسطحات الطبيعة نفسها. ومن ناحية أخرى يمكن النظر إلى اللوحات التي رسمها فان غوخ داخل البيت في تلك الفترة بالذات لمشاهد طبيعية خارجية، أن يجعلها تبدو وكأنها مشاهد تعبر عن رؤى "داخلية"، ما يفترض أن ثمة هنا نوعاً من التداخل الغريب بين المشاهد الداخلية التي تبدو منفتحة على العالم الخارجي مصوّرة أجزاء من الطبيعة، والمشاهد الخارجية التي تبدو منغلقة على داخل لا حدود له.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من الجوع إلى المليارات
ومن الواضح أننا هنا في مواجهة لعبة التلوين الخلاق التي بات فنسان فان غوخ (1853 – 1890) يتقنها بشكل مدهش خلال السنوات الأخيرة، التي أمضاها في فرنسا، لا سيما في الجنوب الفرنسي وأنهاها بتلك الرصاصة القاتلة التي أطلقها على رأسه يوم السابع والعشرين من يوليو (تموز) واضعاً بها حداً لحياة بائسة وغنية في الوقت نفسه. حياة بدأت مع ولادته في بلدة غروت – زندر في برابانت الهولندية وانتهت بموته في أوفير سور واز بالجنوب الفرنسي، بعد يومين من المعاناة من آثار تلك الرصاصة. وبين ذينك التاريخين والمكانين عرف فان غوخ حياة صاخبة مكرسة بكليتها للحب وللفن ولإنتاج مئات من اللوحات التي كان يحدث له أحياناً أن ينجز الواحدة منها في يوم أو يومين ليرسلها إلى أخيه ثيو فيبيعها هذا بقروش قليلة بالكاد يمكن لفنسان أن يعيش بها. وهي طبعاً نفس تلك اللوحات التي زاد عددها في نهاية الأمر عن خمسمئة لوحة يمكن للواحدة منها أن تباع اليوم بعشرات ملايين الدولارات، ويمكن لمجموعها أن يقدر بمليارات الدولارات!