يشكل سد النهضة تحدياً وجودياً أمام دولتي المصب مصر والسودان، في ضوء التعنت الإثيوبي وفقدان استراتيجية تعاونية إثيوبية في إقليم حوض النيل، وهو ما يهدد حالة الاستقرار لدول الحوض، وكذلك إقليمي البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
في هذا السياق تبرز الأسئلة بشأن طبيعة الأوراق المصرية في هذه اللحظة وكيفية استخدامها في الضغط على إثيوبيا لضمان عدم الانزلاق لحالة تهديد الاستقرار الإقليمي المؤثر في المصالح الدولية، خصوصاً تلك المتعلقة بالتجارة الإقليمية والدولية عبر البحر الأحمر، أو لضمان عدم تمدد إضافي للتنظيمات الإرهابية خصوصاً في شرق أفريقيا وجنوبها الشرقي، ثم هل أوراق الضغط المصرية قادرة بالفعل على إحداث تحول في السياسات الإثيوبية، وكذلك المجتمع الدولي لحماية مصالحه على المستويين السياسي والعسكري في الإقليم؟ هذه الأسئلة وغيرها هي ما يشغل راهناً النقاش العام في كافة المنتديات السياسية وغيرها في مصر والسودان وجنوب السودان، بل وتجد اهتماماً شعبياً.
في هذا السياق، فإن تلميح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي من أمام قناة السويس بحل عسكري غير معروف، على وجه الدقة، لا مداه ولا تكتيكاته العملية ثم تأكيده خلال أسبوع واحد بأن كل الخيارات مفتوحة، يطرح الأسئلة حول ماذا فعلت مصر خلال الفترة الماضية لتكون ورقة الردع العسكري التي تلوح بها فاعلة ومؤثرة ليس فقط لإثيوبيا ولكن للأطراف الإقليمية والدولية؟
نحو دول الطوق
يمكن القول إن مصر خلال العام الماضي قد تحركت بفاعلية ونشاط في إقليمي حوض النيل والبحر الأحمر على المستويين السياسي والعسكري، حيث أقدمت على خطوات للتعاون العسكري مع دول الطوق الإثيوبي، ومنها أوغندا أخيراً، طبقاً لما أعلنته القوات المسلحة الأوغندية، وهي الخطوة التي ستنعكس على جنوب السودان في تقديرنا في مراحل مقبلة، في ضوء تحفظاتها النسبية راهناً على القيام بانحيازات واضحة بين أطراف أزمة سد النهضة، على الرغم من الزيارة التي قام بها الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى هناك، وطبيعة الدعم التنموي الذي تقدمه القاهرة لجوبا في هذه المرحلة، كما طورت مصر علاقاتها بالكونغو، وهي الدولة التي تملك علاقات إيجابية بمصر تم التدليل عليها بعدم التوقيع على اتفاقية عنتيبي، التي رفضتها كل من مصر والسودان.
وفي إطار هذه التحركات أيضاً قامت قطاعات من الجيش المصري بزيارات لكل من جيبوتي وأرض الصومال، في محاولة للضغط على الرئيس الصومالي عبدالله فرماجو الذي يتحالف مع أديس أبابا من ناحية، وتحجيم النفوذ التركي ودخول ملعبه الصومالي من ناحية أخرى.
أما على المستوى الإريتري، فقد حدث تباعد نسبي بين القاهرة وأسمرة خلال الثلاث سنوات الماضية تأسس على رهان مصر خلال العشر سنوات الماضية على احتواء أديس أبابا في أطر تعاونية من شأنها إحداث تقارب في أزمة سد النهضة، وبالتوازي مع ذلك القيام بتقارب محسوب مع إريتريا بما لا يثير تحفظات إثيوبيا، ولكن هذه الحسابات المصرية فشلت في التأثير إيجابياً في موقف أديس أبابا في ملف سد النهضة، كما أنها خسرت إريتريا نسبياً، من هنا فإن اتجاهات أديس أبابا في تحميل القوات الإريترية مسؤولية ممارسة الانتهاكات الإنسانية في حرب إقليم تيغراي، سيسهم في تباعد بين أديس أبابا وأسمرة خلال الفترة المقبلة، ويصب في تقديرنا في صالح علاقات أفضل بين القاهرة وأسمرة مجدداً، بما يعظم من الأوراق المصرية ضد إثيوبيا.
وفي ما يخص السودان، فقد ساعد القاهرة طبيعة الحسابات الخاطئة التي أقدمت عليها إثيوبيا إزاء الخرطوم، وذلك إلى حد الاستهانة ربما مع إقدامها على الملء الأول بلا اتفاق لبحيرة سد النهضة العام الماضي، وهو ما أسهم في انهيار ما تبقى من جدار الثقة بين أديس أبابا والخرطوم، بعد أن بدأ شرخ في هذا الجدار مع انسحاب إثيوبيا من مباحثات واشنطن في اللحظة الأخيرة، حيث أدركت قطاعات النخب السياسية السودانية الحاكمة وغيرها طبيعة الأهداف الإثيوبية، خصوصاً مع أضرار هذا الملء التي وصلت لرجل الشارع العادي في السودان، بخاصة مع استخدام إثيوبيا لورقة الحدود للضغط على السودان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
القاهرة ـ الخرطوم
من هنا تم استئناف العلاقات العسكرية بين القاهرة والخرطوم، التي كانت مقتصرة على تأمين الحدود على عهد الرئيس المخلوع البشير لتتطور نحو توقيع اتفاقات دفاع مشترك خلال زيارة قام بها رئيس أركان الجيش المصري للسودان خلال مارس (آذار) الماضي، عبرت عن نفسها على المستوى الإجرائي بمناورات عسكرية جوية وبحرية في كل من مصر والسودان، وتعاون بين سلاحي المهندسين في الجيشين بما يضمن سيطرة للقوات المسلحة السودانية على حدودها مع إثيوبيا وقت الخريف الذي تغمر فيه الأمطار أراض سودانية كانت خارجة عن ولاية الجيش السوداني، وهو ما مكن إثيوبيا في مراحل سابقة من السيطرة على هذه الأراضي، حيث قال قائد القوات الجوية السودانية الفريق الركن عصام الدين سعيد كوكو، إن المناورات المشتركة للقوات الجوية السودانية ونظيرتها المصرية شملت قوات برية بخاصة من البلدين، وهي وفق الاتفاقيات الموقعة بين البلدين في إطار النسخة الثانية لمناورات نسور النيل التي تنطلق سنوياً.
وطبقاً للتحليلات العسكرية، فإن المناورات الجوية تأخذ بعين الاعتبار في ما يبدو القدرة على توجيه ضربة عسكرية لسد النهضة، ولكن عامل البعد الجغرافي بين البلدين، الذي يزيد على 2000 كيلومتر هو تحد واضح، حتى على الرغم من قدرة طائرات الرافال التي تملكها مصر للوصول إلى الأجواء الإثيوبية، لذلك فإن أفضل الطرق التي من خلالها تستطيع المقاتلات المصرية أن تتجاوز ذلك التحدي، هو استخدام القواعد الجوية السودانية القريبة من الأجواء الإثيوبية، وربما جاءت التدريبات المصرية - السودانية الأخيرة للتنسيق على المستوى العملياتي، وهذا التنسيق فضلاً عن كونه يوفر ورقة ردع سودانية مهمة تضيف إلى وزنها الإقليمي في سياق سد النهضة وخارجه، فإنها تحقق أيضاً الهدف المصري في زيادة المكون المهني العسكري في الجيش السوداني على حساب المكون الأيديولوجي الإخواني الذي تراكم في وقت الرئيس البشير، كما أنه يزيد من وزن المؤسسة العسكرية السودانية داخلياً على حساب مكونات عسكرية أخرى كانت قد تصدرت المشهد السياسي الداخلي في المرحلة الماضية.
تجنب المواجهة
على أي حال على الرغم من التحركات الإقليمية المصرية على المستوى العسكري خلال العام الماضي، فإن الاستراتيجية المصرية تسعى لتجنب المواجهة مع إثيوبيا قدر الطاقة، والاستمرار في عمليات الاحتواء السياسي لها، والتأكيد على فرص ذهبية في التعاون التنموي الشامل معها بالتوازي مع استخدام أوراق الردع في تحركاتها الإقليمية مهما ارتفعت تكلفتها، ولعل ذلك التقدير الاستراتيجي هو ما يفسر طبيعة الخطاب السياسي من جانب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الذي يبعد عن الاستعلاء ويؤكد علاقات الأخوة الأفريقية من ناحية ووضع إثيوبيا حتى الآن في مرتبة الشقيق من ناحية أخرى.
وفي تقديرنا، إن أسباب الركون لخطابات الاحتواء السياسي من جانب مصر إزاء إثيوبيا حتى اللحظة الراهنة تعود إلى التكلفة السياسية العالية لحرب على المياه في إقليم حوض النيل، وتأثيرها السلبي في دوله من ناحية، وتداعيات مثل هذه الحرب السلبية على الذهنية السياسية والتاريخية لشعوب النيل وهو ثمن تسعى مصر جاهدة ألا تدفعه في سبيل حماية حق الحياة للمصريين، وذكره الرئيس السيسي حين تحدث عن تكلفة الحلول العسكرية.
السبب الثاني، أنه مهما كانت الموازين العسكرية في صالح مصر ضد إثيوبيا فإن إمكانية دخول أطراف إقليمية هذه الحرب غير مستبعد سواء بالدعم المالي أو العسكري، الأمر الذي يوسع من المواجهة ويجعل تطوراتها ربما رهناً لظروف قد تكون غير واضحة في اللحظة الراهنة، ولا تتحكم فيها القاهرة إجرائياً.
ثالثاً، ربما يكون التعويل على التدخل الدولي على الرغم من عدالة موقفي دولتي المصب مصر والسودان ودفاعهما المشروع عن الأمن الإنساني لشعوبهما تحت مظلة صفقات أو متباطئ، وهو ما يجعل مصر لا تعول عليه كثيراً، وتفضل التفاعل الإقليمي المباشر بين أطراف الأزمة، خصوصاً أن إدراكات إدارة بايدن لطبيعة الأزمة وتفاصيلها تبدو متأخرة مقارنة مع نظيرتها الترمبية في ضوء طبيعة التضاغط الذي جري بين الإدارتين على خلفية مجريات الانتخابات الأميركية.
وعلى الرغم من هذه الحسابات المصرية، التي تقدر التوازنات الحرجة للتدخل الدولي فإن وزير الخارجية الروسي ألكسندر لافروف، من المنتظر أن يحضر إلى القاهرة خلال أيام بشأن سد النهضة، وهو ما شكل نوعاً من أنواع التحريض على تحرك أميركي في ذات الملف، تم الإعلان عنه مباشرة مع الإعلان عن فشل مباحثات كينشاسا في الكونغو، حيث من المتوقع أن يصل إلى المنطقة وفد أميركي في محاولة لتطويق تصاعد التوتر الذي جرى في ملف سد النهضة والوصول إلى ضوء نهاية النفق.