قبل بضعة أيام أعلن الجيش الأوكراني أن وفداً أميركياً برئاسة الملحق العسكري في كييف، العقيد بريتاني ستيورات، زار منطقة دونباس جنوب شرقي البلاد واطلع على الوضع العملياتي هناك.
المقر العملياتي للقوات المشتركة في أوكرانيا في بيان نشره عبر"فيسبوك"، ذكر أن أعضاء الوفد زاروا وحدات الجيش الأوكراني التي تنفذ مهام على خط التماس في دونباس وتحدثوا مع أفرادها.
هل في المشهد تدخلاً أميركياً واضحاً في ما يجري شرق أوكرانيا؟
لنؤجل الجواب إلى عمق القراءة، لكن ما يلفت النظر في مشهد تلك الزيارة، هو أن ستيوارت خلال زيارتها كانت ترتدي بدلة عسكرية عليها شارة تتضمن صورة جمجمة وكلمات "أوكرانيا أو الموت"، وهي شارة لأحد ألوية الجيش الأوكراني، الأمر الذي يمكن أن يحمل معاني ورسائل مثيرة في الوسط من أزمة كفيلة بإشعال نيران مواجهة كونية ثالثة بين واشنطن وموسكو...
روسيا وأكرانيا... أصول الأزمة
يمكن للمرء أن يؤصل للأزمة، في المدى القريب على الأقل، من عند عام 2014، حين شعرت موسكو بأن كييف تكاد أن تضحي خنجراً في خاصرتها، وتسعى جاهدة للانضواء تحت جناح الناتو، الأمر الذي يجعل الخطر محدقاً بالروس، وبخاصة في ظل ما تراه روسيا مؤامرات مستمرة ومستقرة ضدها من الأطلسي.
في أغسطس (آب) من ذلك العام، كانت قوات روسية تتوغل في أوكرانيا، وقام الجنود الروس بالسيطرة على مواقع استراتيجية وحيوية في شبه جزيرة القرم، بعد ذلك قامت روسيا بضم القرم تحت سيادتها، وأجرت استفتاء بين سكانها جاء لصالح الانضمام لروسيا الاتحادية.
ما جرى في القرم شجع جماعات انفصالية مؤيدة لروسيا في أوبلاست دونيتسك ولوجانسك في أوكرانيا، التي يطلق عليها عادة "الدونباس"، للخروج في تظاهرات، كانت جزءاً من مجموعة أوسع من الاحتجاجات المؤيدة لروسيا في جنوب وشرق أوكرانيا، حيث تصاعدت إلى نزاع مسلح بين القوات الانفصالية المدعومة من روسيا في جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك (جمهورية أوكرانيا الشعبية) والحكومة الأوكرانية.
ولعل جوهر الخيوط المتشابكة والخطوط المتداخلة ما بين موسكو وكييف، يمكن تفسيره في ضوء حقيقة أنه على الرغم من أن أوكرانيا دولة مستقلة منذ 1919، إلا أن روسيا تعتبرها جزءاً من مجال تأثيرها، ولهذا يرى البعض أن بوتين يتبع نسخة حديثة من سياسة بريجنيف، التي تنص على أن تكون لأوكرانيا "سيادة محدودة"، كما حصل مع وارسو عندما كانت ضمن مجال التأثير السوفياتي.
بايدن وزيلينسكي... دعم أوكرانيا
في الثاني من أبريل (نيسان) الجاري أجرى الرئيس الأميركي، جو بايدن، أول مكالمة هاتفية مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، حسب بيان من البيت الأبيض.
البيان عينه أشار إلى أن بايدن أكد دعم الولايات المتحدة الثابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها في مواجهة العدوان الروسي المستمر في دونباس وشبه جزيرة القرم.
وتابع، "لقد أكد بايدن التزام إدارته تنشيط الشراكة الاستراتيجية الأميركية الأوكرانية".
ولعل من باب التذكير أن نشير إلى أن واشنطن وبروكسل منذ 2014 قامتا بتوقيع عقوبات اقتصادية على روسيا وعلى أفراد وشركات روسية ولا تزال قائمة، بل يجري الحديث الآن عن فصل جديد من فصول تلك الآلية الأميركية لمعاقبة القيصر، الذي رفض أن يتكرر سيناريو جورجيا 2008 مرة أخرى في أوكرانيا، لا سيما وأن شبه جزيرة القرم تحوي ميناء سيفاستوبول، حيث مقر أسطول البحر الأسود الروسي، ومنفذ موسكو لعالم البحار حول العالم.
بدا واضحاً أن بايدن رافض لواقع الحال في شرق أوكرانيا، ففي كلمة له ألقاها خلال مشاركته في مؤتمر ميونيخ للأمن، اشار إلى أن السلطات الروسية بقيادة بوتين تسعى إلى إضعاف التحالف الأوروبي والناتو، كما اعتبر أنها تريد "تقويض الوحدة الأطلسية".
وأضاف، "لهذا السبب لا يزال الدفاع عن سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها أمراً له أهمية حيوية بالنسبة إلى أوروبا والولايات المتحدة".
هل تحول الحديث النظري الأميركي من قبل بايدن إلى واقع حال عسكري على الأرض؟
أوستن وتاران... وجسر إلى أوكرانيا
قبل مكالمة بايدن – زيلينسكي بساعات قليلة، كان وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن يجري اتصالا هاتفيا مع نظيره الأوكراني أندريه تاران، بحث فيه تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
وبحسب بيان المتحدث باسم البنتاغون في أعقاب الاتصال، فإن أوستن أكد "دعم الولايات المتحدة الثابت لسيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، مجدداً التأكيد على تمسك الولايات المتحدة بالإسهام في بناء القوات المسلحة الأوكرانية للتصدي بمزيد من الفاعلية للعدوان الروسي".
هل يمكن للقارئ أن يستنتج نوايا عسكرية أميركية لدعم أوكرانيا حتى لو أدى ذلك إلى حرب كونية مع الروس؟
من الواضح أن الأمر كذلك بالفعل، وهو ما رصده الروس الأسابيع القليلة الماضية، الأمر الذي دعا الخبير العسكري الروسي الكسندر ميخائيلوفسكي، لأن يكتب عبر "موسكوفسكي كومسوموليتش"، مشيراً إلى أن طائرات الشحن العسكرية آخذة في الانطلاق منذ فترة مباشرة من الولايات المتحدة، وتحديداً من ولاية كاليفورنيا، متوجهة إلى القواعد العسكرية في أوروبا، وهذا يعني أنها تنقل حمولة إما غير متوافرة في القواعد الأميركية في أوروبا أو أن كميتها محدودة هناك.
الخبير العسكري الروسي يكاد يحدد نوعية تلك الأسلحة الأميركية التي تحلم بها أوكرانيا، من منظومة "جافلين"، المضادة للدبابات، أو صواريخ تاو الأقدم بعض الشيء، وهذه الأخيرة اقترحها خبراء عسكريون غربيون، بعد أن رأوا مقاتلين سوريين استخدموها في تدمير عربات سوفياتية الصنع في سوريا.
وعلى الرغم من أن الروس وأعينهم على الأراضي الأوكرانية يراقبون إرسال طائرات صغيرة إلى أوكرانيا من فترة إلى أخرى، إلا أنهم في الأسابيع الأخيرة قد لاحظوا شيئاً مثيراً، وهو أن الجسر الجوي الأميركي يعمل الآن على مدار الساعة، لذلك إذا حدث شيء ما، يمكن أن ينمو حجم الإمدادات بشكل كبير، بالتالي، فهذه إشارة مقلقة للغاية ...
هل يدفع البيت الأبيض الأوكرانيين إلى الحرب، أم أن الأوكرانيين أنفسهم هم من يسعون لإقحام الأميركيين في مواجهة قد تقود إلى القارعة المتوقعة؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كوليبا وطلب دعم الناتو رسمياً
في وقت سابق من الشهر الماضي حث وزير الخارجية الأوكراني، دميترو كوليبا، الولايات المتحدة على لعب دور أقوى في دعم أمن أوكرانيا، حيث تعزز روسيا وجودها (حسب تعبيره) بالقرب من الحدود الشرقية لأوكرانيا، وفي شبه جزيرة القرم، التي ضمتها موسكو عام 2014.
وفي تصريحات كوليبا لصحيفة "كييف بوست"، نراه يقول، "ما زلنا ننتظر الخطوات المحددة والصحيحة من الإدارة الأميركية"، موضحاً أن أحد التوقعات الرئيسة لأوكرانيا هي مشاركة أميركية أكثر فاعلية وعاجلة، وهو الأمر المهم، في إنهاء احتلال دونباس وشبه جزيرة القرم.
أما وزير الدفاع الأوكراني، تاران، ففي حديثه المشار إليه سلفاً مع نظيره الأميركي، أوستن، فقد أكد على التزام كييف إصلاح الدفاع الأوكراني ليتجاوب مع معايير ومبادئ حلف الناتو.
أبعد من ذلك، ففي السادس من إبريل الجاري، دعا الرئيس الأوكراني زيلينسكي حلف شمال الأطلسي إلى المصادقة على خطة العمل من أجل انضمام أوكرانيا إلى المنظمة، بهدف توجيه "إشارة فعلية" لروسيا.
زيلينسكي في تغريدة موجهة إلى الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولنبرغ بعد اتصال هاتفي بينهما كتب، "الأطلسي هو السبيل الوحيد لإنهاء الحرب في دونباس".
على أن المراقب للمشهد الأوكراني يمكن أن يرصد أيضاً نوعاً من المخاوف لدى الأوكرانيين من استدعاء الأطلسي، ذلك أنهم يعلمون علم اليقين، أن الدب لا يقيد، وأن القيصر لن يسمح أبداً باقتراب الناتو من حدود روسيا الغربية، بل قد يمضي إلى الخيار شمشون إذا لزم الأمر.
هذه النتيجة يمكن الخروج بها بعد أن أعلن سكرتير مجلس الأمن القومي والدفاع الأوكراني أوليكسي دانيلوف، أن كييف لن تحاول استعادة منطقة دونباس شرق أوكرانيا بالقوة، معتبراً أن مسألة الحرب بيد رئيس روسيا فلاديمير بوتين.
على أن الرجل ترك باباً موارباً كما يقال، إذ أضاف، "أن أوكرانيا لن تحاول استعادة الأراضي المحتلة في منطقة دونباس الشرقية بالقوة، لكنها مستعدة للدفاع عن نفسها ضد أي عدوان آخر".
وخلاصة القول عند دانيلوف، التي جاءت في مقابلته مع وكالة "رويترز"، إن حكومة بوتين تحشد قوات ومعدات عسكرية على الحدود معها لاستنفار المواطنين الروس ضد أي عدو أجنبي وصرف الانتباه عن مشكلات داخلية.
روسيا... هل تتدخل من جديد؟
لا يظن أحد أن موسكو سوف تقف مكتوفة الأيدي أمام التحركات الأميركية، وقد كان آخرها وأكثرها وضوحاً للعين المجردة عبور سفينتين حربيتين أميركيتين إلى البحر الأسود عبر مضيق البوسفور، على خلفية التوتر الحادث بين أوكرانيا وروسيا.
نهار الخميس الثامن من أبريل الحالي، أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي، أن الولايات المتحدة سجلت أكبر عدد من القوات الروسية بالقرب من حدود أوكرانيا منذ 2014.
وأضافت "لدى روسيا الآن عدد من القوات على الحدود مع أوكرانيا أكثر من أي وقت مضى منذ عام 2014".
أما الناطق باسم الخارجية الأميريكية، نيد بريس، فقد صرح للصحافيين بالقول، "نشعر بقلق تام حيال التصعيد أخيراً لتحركات روسيا العدائية والاستفزازية في شرق أوكرانيا... ما نعارضه هو خطوات معادية هدفها ترهيب وتهديد شريكتنا أوكرانيا".
لم ينكر الروس تلك التحركات العسكرية، إذ أشار المتحدث باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، إلى أن روسيا تحرك قواتها داخل أراضيها على الحدود مع أوكرانيا بالشكل الذي تعتبره ضرورياً، مؤكداً أن هذه الإجراءات لا تشكل تهديداً لأي دولة أخرى.
أكثر من ذلك، فإن الروس يوضحون أن حركة القوات والمعدات العسكرية تأتي في إطار المناورات المجدولة المرتبطة باختتام فترة التدريب الشتوية واختبارات الاستعداد القتالي.
لكن وفي كل الأحوال يبقى التساؤل هل ستعود تلك المعدات والقوات إلى أماكن تمركزها الدائم بعد اكتمال التدريبات، أم أنها ستبقى في حقول التدريب بالقرب من حدود أوكرانيا؟
في كل الأحوال يمكن اعتبار التحركات الحالية للقوات الروسية في جنوب البلاد، التي يتم تنفيذها وفقاً لخطة التدريب القتالي الجارية، تشكل أيضاً إشارة إلى كييف.
هل تعلمت روسيا من الدورس الناجحة لخططها بالنسبة إلى جورجيا عام 2008؟
أغلب الظن أن ذلك كذلك، فالروس يرقبون منذ منتصف يناير (كانون الثاني) الماضي، إرسال أوكرانيا عدداً كبيراً من القوات إلى دونباس، وكيف أن كييف تركز قبضتها العسكرية في المنطقة، وباتت مستعدة لتوجيه ضربة مدمرة قوية نحو دونباس ولوغانسك.
هنا يمكننا النظر إلى التكتيكات الحالية لإجراءات روسيا بعين الباحث الروسي "فيكتور سوكيركو"، الذي أشار أخيراً إلى أن الأمر ليس بالجديد، ويقصد بذلك عملية إعادة نشر الفرق العسكرية الروسية على الحدود، فهناك تهديدات خارجية ينبغي الاستعداد لها مسبقاً، وبأكبر قدر من السرية والكفاءة، وفي الوقت نفسه، استعراض القوات العسكرية، بما يخدم التعليم والتدريب العسكري. كذلك كان الأمر في عام 2008 في أوسيتيا الجنوبية، فحينها أصدرت إدارة الاستخبارات العسكرية معلومات تفيد بأن جورجيا، بناء على اقتراح الرئيس ساكشفيلي والتأكيدات التي تلقاها بدعم الولايات المتحدة له، تستعد لغزو أوسيتيا الجنوبية، حيث تتمركز قوات حفظ السلام الروسية.
بينت التجربة في جورجيا، أن الاحتفاظ بالقوات الروسية، أو على الأقل المجموعات المتقدمة منها، في منطقة النزاع المسلح المتوقع أكثر فاعلية من استقدامها في ما بعد من أماكن انتشارها الدائم.
مايو... أهو موعد الحرب؟
يبدو أن تصدر مجموعة من صقور الحرب مفاصل السياسة الأميركية، هو أحد أبرز سمات ولاية الرئيس بايدن وتصعيده الخطاب السياسي الرسمي، بالتزامن مع إجراء تنقلات كبيرة في القوى والمعدات العسكرية ونشرها علانية لمواجهة الصين وروسيا، التي جسدتها المناورة الأميركية مع حلف الناتو تحت عنوان "دفاعاً عن أوروبا 21"، وهي تنطوي على نشر فرقة عسكرية من الولايات المتحدة إلى ساحة معارك محتملة في أوروبا في فترة السلم، كما أرسلت الولايات المتحدة طائراتها القاذفة العملاقة من طراز "بي-52"، للتموضع في أراضي النرويج لأول مرة.
هل اختار الناتو في ضوء المعلومات المتقدمة شهر مايو (أيار) للهجوم؟
هكذا يتساءل المحلل السياسي الروسي الكسندر نازاروف، وفي الجواب عن سؤاله المتقدم، يشير إلى خطوط تحركات طائرات الاستطلاع الأميركية والبريطانية والطائرات من دون طيار فوق الدونباس، إضافة إلى زيادة حركة طائرات الاستطلاع الأميركية والبريطانية والطائرات من دون طيار فوق الدونباس وعلى طول الحدود مع شبه جزيرة القرم بشكل كبير.
نازاروف يلفت الانتباه إلى تصريحات السكرتير الصحافي للوفد الأوكراني لمجموعة الاتصال حول الاستيطان في الدونباس، أليكسي اريستوفيتش، الذي اشار إلى أن التدريبات ستعمل على محاكاة حرب مشتركة مع الناتو ضد روسيا في شبة جزيرة القرم وشمالها.
المحلل الروسي يضعنا أمام مخاوف حقيقية، تبدأ من التذكير بنجاح أذربيجان في الحرب مع أرمينيا، التي ربما (على حد تعبيره) قد لعبت برأسي أوكرانيا والولايات المتحدة الأميركية، وتريدان تكرار هذا السيناريو في الدونباس.
هل من مواقيت أكثر سخونة؟
السيناريو التخيلي الذي يتكلم عنه يبدأ من حرب أوكرانية روسية في أبريل الجاري، تالياً وبعد عدوان أوكراني على جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك، مع تصعيد محتمل في مايو إلى حرب بين الناتو وأوكرانيا ضد روسيا، وقد يحاول الناتو خلالها احتلال شبه جزيرة القرم واحتلال القاعدة البحرية الروسية في سيفاستوبول.
ما الذي يعنيه السيناريو المتقدم حال الرؤوس الساخنة وكرة النار المتدحرجة؟
باختصار غير مخل، قد يضحي العالم أمام سيناريو حرب كونية، ومن عبث الأقدار أو عجبها، أن الحديث عن التحديات المقبلة، يواكب الذكرى الثمانين لبدء الحرب الوطنية الروسية العظمى ودحر النازية من قبل الجيوش الروسية.
هل السردية المخيفة المتقدمة قابلة للتنفيذ بالفعل؟
في عالم الجيواستراتيجيات السائلة، تبقى كافة الاحتمالات مفتوحة إلا ما رحم ربك.