لا يختلف اثنان حول صعوبة الأوضاع في معظم الدول العربية، فمصر مهمومة بتداعيات أزمة سد النهضة، وتشعر بإحباط من قيام دولة أفريقية شقيقة، هي إثيوبيا، بمحاولة العبث بحصتي مصر والسودان في مياه النيل، ورفض أديس أبابا جميع العروض المعتدلة لتسوية النزاع، الأمر الذي قد يفجر أزمة حادة أو صراعاً طويلاً في المنطقة. ولبنان يعاني اقتصادياً وسياسياً على نحو يهز صورته الرائعة، وهويته الجذابة، كما أن شبح الإفلاس يهدد قطاعات ومؤسسات في ذلك البلد الشقيق. والأردن تعافى منذ أيام قليلة من صراع مكتوم أقرب ما يكون إلى مؤامرات القصر منه إلى تحركات الشارع. والعراق يجاهد لبناء الدولة التي دفعت ثمناً فادحاً في العقود الأخيرة، سواء بسبب الاحتلال الأجنبي، أو بسبب الحصار الاقتصادي، فضلاً عن محاولات تنظيم "داعش" الإرهابي إحياء وجوده في بعض المناطق التي جرى طرده منها، وتحريرها ببسالة الجيش العراقي في العامين الأخيرين. والوضع في سوريا متجمد لا تبدو أمامنا فيه ملامح للانفراج، فضلاً عن الضغوط الخارجية والتأثيرات الأجنبية، سواء من جانبي إيران وتركيا، أو قوى كبرى أصبحت طرفاً في الصراع الدائر في تلك الدولة. أما السعودية ومعظم دول الخليج فالكل هناك يعيش حالة ترقب أمام فترة رئاسة أميركية جديدة، توحي مؤشرات كثيرة بأنها تسعى لفتح ملفات مؤجلة للضغط على تلك الدول عند اللزوم، بما في ذلك الوضع في اليمن وتداعياته المعقدة. وإذا نظرنا إلى المغرب العربي فسنجد انفراجة ملموسة على الساحة الليبية تتمثل في درجة من التوافق، وإن لم يكن كاملاً، بين جميع القوى المتصارعة على السلطة. أما تونس فعلى الرغم من مشكلاتها في البرلمان وخارجه، فإنها تمضي على الطريق ومثلها مثل الجزائر كدولتين عربيتين أفريقيتين متجاورتين. أما المغرب فقد أصبح يستأثر بأفضل بنية أساسية في العالم العربي مع دوران حركة الاستثمار بنجاح واضح، وإحداث قفزات واضحة في مستوى معيشة الفرد. فإذا كان ذلك هو عرضاً سريعاً وموجزاً للأوضاع العربية عامة، إلا أن هناك بريق أمل في المدى البعيد يوحي بعودة الضياء إلى الأرض العربية، والخروج من شرنقة الضغوط الدولية والتأثيرات العالمية، ويمكن إجمال ذلك في بعض الملاحظات:
أولاً: إن الكون في حركة دائمة، وكوكب الأرض تشابكت فيه العلاقات، وتداخلت الارتباطات، وأصبحنا أمام مشاهد معقدة ليس من السهل فك طلاسمها، ولقد أسهمت التكنولوجيا الحديثة في ازدياد درجة التعقيد، بحيث تقاطعت الأحداث الطارئة والأزمات العابرة مع الأوضاع القائمة، وينطبق هذا الشأن على العالم العربي بكل ما له وما عليه. ولست أزعم أن العرب في أفضل أوضاعهم، بل قد يكون العكس صحيحاً، فأكبر دولتين عربيتين، وهما مصر والسعودية، تجري محاصرتهما بقوى معادية، سواءً من الحوثيين المدعومين من إيران في جنوب السعودية، أو إثيوبيا المدعومة بقوى متعددة، لمحاولة خنق مصر جنوباً، بالتحكم في مياه نهر النيل، وتجد هذه القوى المعادية من يدعمها لإضعاف أكبر دولة اقتصادياً، وهي السعودية، وأكبر دولة سياسياً، وهي مصر، بينما جرى تحييد العراق قومياً بكل الطرق، وإشغال المغرب العربي في مشكلاته، وتحويل العمل العربي المشترك إلى هيكل شكلي تبدو فاعليته محدودة، وإرادته مشلولة. وعلى الرغم من كل ذلك، فإنني ألمح بصيص النور عن بعد، وأرى أن طلوع الفجر بات قريباً، لأن العرب أصبحوا جزءاً لا يتجزأ من المعادلة الدولية، وتشابكت أطرافهم مع دول مختلفة، ولم يعودوا هم تلك الأمة التي تعيش مع الأوهام والأحلام بعيداً عن الواقع الذي يشهده الجميع. فلقد أصبحت الدول العربية، فرادى أو مجتمعة، جزءاً لا يتجزأ من المعادلة الإقليمية، التي تمتد فيها أطماع إيران مع أحلام تركيا مع سياسات إسرائيل، بحيث نجم عن ذلك كله وضع مختلف لم يكن مطروحاً من قبل، فلقد ارتفع العرب إلى درجة الوعي الكامل بالشؤون الدولية والعلاقات المركبة بين القوى المختلفة.
ثانياً: إن اتساع دائرة المعلومات وتداولها، والدوران السريع للأخبار في ظل ثورة الاتصالات التي شهدها العالم، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن درجة الشفافية في العلاقات الدولية والارتباطات الإقليمية أصبحت عالية، ولم تعد هناك أسوار تمنع أو حواجز تحول دون التواصل المستمر بين مختلف الأطراف، بل والانفتاح الكامل على العالم الخارجي. ولعل ثورة المعلومات، وما صاحبها من نتائج، تعد تعويضاً تلقائياً عن الغياب النسبي للممارسة الديمقراطية في معظم الدول العربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثالثاً: إن أكثر الومضات سطوعاً في ظني هو حالة الاهتمام الجديدة بالتعليم في الدول العربية، ولو أخذنا النموذج المصري لوجدنا أن العامين الماضيين قد شهدا نقلة نوعية لتحديث التعليم، الذي كان قد توقف عند نهاية الحرب العالمية الثانية والعلم المتاح وقتها. وعلى الرغم من المعارضة القوية من قطاعات متعددة، فإن الحكمة تقول: "إن المرء عدو ما يجهله"، ولذلك اتجهت سياسات المصريين لتتبلور في حوار عميق يحاول أن يضع حداً للأساليب العقيمة التي تعاند التطور، وترفض الإصلاح. ولقد مضت دول عربية عدة أيضاً في اتجاه إصلاح التعليم، وذلك في ظني هو التصرف الأمثل لمن يسعى لارتياد طريق الغد. فالتعليم قاطرة التنمية، وركيزة الديمقراطية والسند الحقيقي لمنظومة الحريات، التي يسعى الفرد للتمتع بها في ظل دولة راسخة الأركان ثابتة البنيان.
رابعاً: إن استشراف المستقبل والتوجه العربي العام نحوه، إنما يؤكد اتجاه الإرادة القومية إلى تعزيز العقل المعاصر والاهتمام بالبحث العلمي الذي يفتح الأبواب المغلقة أمام الأمم والشعوب. وهذه في ظني بوادر مشجعة نحو ارتياد المستقبل والسعي في طريق طويل يؤدي إلى حياة أفضل للعرب في أقطارهم المختلفة.
خامساً: إننا لا ننكر أن هناك ما يؤرق الدول العربية، كلاً على حدة، فسد النهضة الذي تقيمه إثيوبيا على النيل الأزرق هو محاولة استفزازية كيدية مدبرة لمحاولة خنق مصر، أكبر دولة عربية، فضلاً عن تعطيل الإرادة الكلية للعرب، بل والاحتفاظ بهم رهينة لإرادة قوى إقليمية وقوى دولية لا تخفى على أحد، لأنها لا تريد التقدم للأمة العربية ولا الصحوة لشعوبها تسهيلاً للسيطرة عليها وإحكام قبضة التخلف الذي يحيط بها. ولندرك جميعاً أن العلاقات الدولية لا تعرف الحب أو الكراهية، ولكنها تعرف الاحترام، أو الاستخفاف، فالاحترام من نصيب الدول التي تبني قواعد المجد على أرضها، وتشيد في رصانة وقوة دعائم مستقبلها، بينما يظل الاستخفاف لصيقاً بدول أخرى معدومة الإرادة قليلة التأثير في محيطها الجغرافي إلى جانب تضاؤل حصيلتها من التراث الإنساني.
إن الملاحظات التي طرحناها قد تبدو مغرقة في التشاؤم، وذلك هو الذي يدعونا إلى البحث عن ومضات الضوء، فقد تحقق في ليبيا - على سبيل المثال - في الأشهر الأخيرة، ما لم يكن متاحاً من قبل، واتجهت الدولة الشقيقة نحو التوحد والاستقرار، وهو أمر كان يبدو منذ أشهر قليلة بعيد المنال. كما أن هناك بوارق أمل أخرى في تواصل قوي بين بعض الدول العربية في المشرق، مثلما هو متوقع من دولة العراق تجاه أشقائها في الأردن ومصر، بل والسعودية أيضاً، كما أن دول الخليج العربي قد قطعت شوطاً طويلاً على طريق التحديث، وأظن أن القنوات المفتوحة بين الإمارات والبحرين في جانب، وإسرائيل على الجانب الآخر، هي تطور موضوعي مقبول على ألا يمس ذلك ثوابت القضية الفلسطينية وحقوق العرب، بل قد يؤدي هذا الانفتاح إلى اشتباك سياسي بنّاء يكرس حل الدولتين، ويعطي للفلسطينيين حقوقهم المشروعة، بحيث يسود السلام، وينقشع الظلام، إيذاناً ببزوغ الفجر الصادق، والوصول إلى مهرجان الشروق الذي يحتوي الكون والكائنات!