حتى بدايات سنوات الستين من القرن الماضي، كانت القسمة قد ترسخت منذ عقود بين غناء عربي باللغة الفصحى يعد بشكل عام نخبوياً قد لا يطرب له إلا المثقفون وبرجوازيو المدن حتى ولو غنته أم كلثوم وأسمهان ومحمد عبدالوهاب، وغناء بالعامية المصرية وغيرها من العاميات العربية يفتتن به الناس البسطاء الطيبون. في شكل عام، كان الغناء بالفصحى يكاد يكون وقفاً على الأغاني الوطنية أو الدينية أو القصائد المستقاة من الكلاسيكيات العربية، بينما كان غناء الغرام وشؤون الحياة اليومية يكتب بالعاميات، ويعد في الصف الثاني، حتى ولو حمل شعراؤه أسماء كبيرة، مثل حسين السيد، أو مرسي جميل عزيز، أو منصور الرحباني، ويمكن للقائمة ألا تتوقف، بل لا بد من أن نذكر هنا كيف أن الأخطل الصغير أحدث ثورة فنية حين "غامر" بكتابة أغنية "يا ورد مين يشتريك" لمحمد عبدالوهاب، جاعلاً نصفها بالفصحى، والنصف الآخر بالعامية. غير أن هذا كله كان لا بد له أن ينتهي في ذلك العام من بداية الستينيات حين ظهرت أغنية "أيظن"، رائعة الفنانة نجاة الصغيرة، لتلغي الفارق بين محبي الفصحى وعشاق العاميات. يومها، كان وراء تلك الثورة، وكالعادة، محمد عبدالوهاب، الذي كان يخص الفن العربي بثورة من ذلك النوع مرة كل بضع سنوات، فيحدث انقلابات فنية قد يعجز آخرون عن مضاهاتها إلا على خطاه.
مؤسس للحداثة الغنائية
لكن الأهم في ثورة (محمد عبدالوهاب - نجاة الصغيرة) المدهشة تلك كان حضور طرف ثالث فيها هو الشاعر نزار قباني، الذي يمكن القول إن تلحين عبدالوهاب لقصيدته تلك كان الحدث الأكبر الذي أتى في حقيقة الأمر متوازياً مع بساطة اللغة الشعرية التي بالكاد ينتبه أحد إلى أنها لديه فصحى تسير على القواعد الكلاسيكية لفن الشعر العربي في أجمل تجلياته. وطبعاً، لن نمعن في هذه العجالة في حديث تقني، لكننا سنتوقف عند اشتغال عبدالوهاب على لحن كانت له بساطة أغاني "التروبادور"، محدداً مقاييس مذهلة للتعامل مع لغة قباني، الذي سيصبح منذ تلك الأغنية المؤسس الحقيقي للغناء العربي الجديد، وسيبقى ظله حتى اليوم، وبعد رحيله بسنوات طويلة مخيماً على الأغنية العربية بشكل يجعل أي راغب بانتفاضة في غنائه يتوجه إلى شعره باحثاً عن قصائد تلحن وتغنى لتصبح، مهما كانت هوية مغنيها، جزءاً من الريبرتوار الغنائي العربي بصرف النظر عن توزيع التصنيف بين شعبي وكلاسيكي.
وحسبنا اليوم أن نستمع إلى أغانٍ بادية الحداثة بصوت وألحان كاظم الساهر لندرك فحوى ما نقول، وكذلك أن نستعيد بعض أجمل أغاني ماجدة الرومي، وربما أصالة، وصولاً إلى نانسي عجرم، لنستعيد علاقة نزار قباني مع الغناء العربي الحديث الذي لا شك أنه يدين له بالكثير، لكنه يدين تحديداً لتلك اللحظة البديعة التي عبرت عنها ولادة "أيظن".
دور عبد الوهاب
صحيح أن تلك الأغنية لم تكن زمنياً، أول ما أنشد من أشعار نزار قباني، إذ نعرف أن فيروز كانت قد غنت من كلماته واحدة من أغنياتها المبكرة الجميلة، وكذلك فعلت فايزة أحمد في رائعتها "لا تدخلي"، لكن "أيظن" أتت شيئاً مختلفاً تماماً. جاءت حاملة عبق الكلام اليومي، وقد هذبته فصحى تنتمي إلى السهل الممتنع. لغة تدخل إلى القلب مباشرة، ومنه إلى العقل لا العكس. وهو أمر أدرك عبدالوهاب إمكاناته حتى قبل أن يتصور القوالب الموسيقية التي ستخدم لحنه. ومن المؤكد أن فنان العرب وموسيقارهم الأكبر، كان لذكائه وعلمه الموسيقي الكبير متضافراً مع إدراكه مفاهيم التلقي والإمكانات التلقائية التي يملكها ملايين المستمعين البسطاء، كان يعرف ما يريد. وما كان يريده هو بالتحديد أن يلتقط الجمهور العريض هذه الأغنية التقاطه لأي نص مكتوب بالعامية. ولم يكن مخطئاً في رهانه، ما جعل اندلاع تلك الثورة الغنائية يومها ممكناً، لا سيما في استرجاع تألق الفصحى وجمالها، و"فرضها" على الحياة اليومية. بيد أن الأكثر أهمية يومها كان تمكن نزار قباني نفسه من أن يتفرد منذ تلك اللحظة بكونه المجدد الأكبر في كلام الأغنية العربية، وهي مكانة لا تزال حكراً عليه حتى اليوم.
حزن الكبار والناس الطيبين
نعود إذاً إلى نزار قباني وإلى أيامه الأخيرة، وقد بات في عالم الغناء العربي عملاقاً بشكل يوازي حضوره في الشعر العربي كثالث ثلاثة إلى جانب أدونيس ومحمود درويش، وإنما بكونه أكثر شهرة وشعبية منهما. يومها، على الرغم من أن اشتداد المرض عليه طوال الشهور السابقة، كان قد أكد أنه سيرحل عن عالمنا، فإن ذهول العالم العربي لم يكن هيناً عندما أعلن عن رحيل صاحب "خبز وحشيش وقمر"، بالنسبة إلى البعض، و"أيظن" بالنسبة إلى البعض الآخر. ومن هنا عم الحزن ليس الأوساط الأدبية والفنية العربية وحدها، بل قطاعات عريضة من جماهير عربية رأت في رحيله خسارة عربية لا تعوض. وهكذا، شعر كثيرون آخر أبريل (نيسان) 1998، يوم رحيله، بأن ثمة فراغاً كبيراً بدأ يلوح، كان أشبه بالفراغ الذي تلا إعلان رحيل أم كلثوم وعبدالحليم حافظ وفريد الأطرش خلال السنوات الأخيرة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذلك أن نزار قباني كان في الحياة الشعرية العربية، ما كانه أولئك الثلاثة في الحياة الغنائية. كان شاعراً متميزاً بالتأكيد، لكنه كان، أكثر من ذلك، ظاهرة استثنائية، إذ لم يحدث سابقاً أن تمكن شاعر، كرس حياته للشعر، من أن يجعل من كتبه الأكثر مبيعاً، في طول العالم العربي وعرضه طوال عقود من السنين.
بسيطة أم تبسيطية؟
بالنسبة إلى الباحثين والأكاديميين، قد يكون من الصعب النظر إلى شعر نزار قباني، بوصفه التجلي الأفضل للشعر العربي المنشود. صحيح أن كثيرين يعتبرونه امتداداً لكبار شعراء المرأة واليومي في الحياة العربية، بدءاً من عمر بن أبي ربيعة، لكن كثيرين كانوا يرون في الوقت نفسه أن تجديدات نزار ظلت محصورة في مجال الموقف والتعبير أكثر مما في مجال اللغة الشعرية. فلغته كانت دائماً بسيطة (وقد يقول البعض تبسيطية) تستقي من التعبير اليومي، وتخاطب العواطف، (وقد يقول البعض: تخاطب الغرائز، وربما وجد في هذا بعض أسباب نجاحها)، في عبارات قصيرة ثاقبة تدخل القلب مباشرة، حتى وإن تباطأت في الوصول إلى العقل أو الروح. ومن هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون، من بين إنجازات نزار قباني الكثيرة، أثره الكبير في التجديد الذي طرأ على كلام الأغنية العربية، كما أشرنا، منذ "أيظن"، وحتى تلحينات كاظم الساهر التي تكمل ما بدأه عبدالوهاب، مروراً ببعض القطع الوطنية الرائعة التي شدت بها أم كلثوم ذات يوم.
المرأة والوطن أولاً
ولد نزار قباني عام 1923 في دمشق، وتلقى دروسه الابتدائية، ثم الثانوية والجامعية فيها. وتفتح على الأدب والشعر باكراً متتلمذاً على يد خليل مردم بك "هذا الرجل الذي كان شاعراً من أرق وأعذب شعراء الشام ربطني بالشعر منذ اللحظات الأولى". ونزار منذ أن ارتبط بالشعر باكراً في صباه لم يتركه بعد ذلك أبداً. وحتى حين كان ينصرف إلى منصب دبلوماسي رسمي (كقائم بأعمال سفارة، أو سفير لبلده في دول مثل الصين وإسبانيا، في فترات متفرقة من حياته)، كان يحرص على إبقاء الشعر همه الأول والأخير. والشعر بالنسبة إليه كان يعني المرأة والوطن. ومن هنا طغى هذان الموضوعان على منجزه، فكتب للمرأة بعض أجمل وأرق قصائد الشعر العربي الحديث، كما كتب للوطن أكثر قصائده غضباً وحباً.
وفي الحالتين كان نزار قباني أشبه بمن يعبر عن العواطف العربية العامة، إضافة إلى البعد اليومي البسيط في صوره وموضوعاته، ما جعل الكثيرين يشبهون شعره بشعر الفرنسي جاك برفيير، الذي كان مثله، في لحظات كثيرة من حياته، صاحب إضافات أساسية على الأغنية أكثر مما على الشعر نفسه.