على الرغم من أن الهدف كان واحداً، والمساعي للوصول إليه بدأت تتضح مع بدايات القرن العشرين، بدا حينها أن ليس ثمة ما يجمع بين من كانوا يعتبرون أنفسهم "اشتراكيين أوروبيين" يحاولون معاً، ولكن كل على طريقته، مواصلة ما بدأته الثورة الفرنسية ومن ثم تصويب الأخطاء التي ارتكبت خلال ثورات أواسط القرن التاسع عشر الأوروبية، لعل ذلك التصويب يمكنهم من إحداث تغييرات سياسية واجتماعية وذهنية توصلهم جميعاً إلى هدفهم الواحد. ومع هذا كان ثمة قاسم مشترك بينهم لم يكونوا على أية حال متنبهين إليه، وهو ولعهم المشترك بالفنون والآداب وإيمانهم بأن لها دوراً أساسياً في عملية التغيير. وفي هذا الإطار حظي الكاتب الروسي مكسيم غوركي على الأقل في السنوات السابقة على انتصار ثورة أكتوبر التي تحولت فيها الثورة إلى دولة، واشتدت من جرائها الصراعات بين الثوريين أنفسهم، حظي باحترام الجميع وبخاصة "الفوضويين" الذين أعطوه مكانة مفضلة دون أن يتوقعوا أنه سينتمي إلى الخط المحافظ خلال المرحلة المقبلة. ومن المؤكد أن حظوة غوركي لدى "الفوضويين" أسبغت عليه هالة سحرية مميزة في مرحلة أولى على الأقل.
مقال في "اندبندنت"
ولعل الموقف الذي عبر عنه الزعيم "الفوضوي" الروسي الأمير بيوتر كروبتكين، كان الأكثر وضوحاً في تبجيل هذا الكاتب الذي سيعرف لاحقاً بكونه صديقاً للينين، كما بكونه بعد ذلك واحداً من ضحايا ستالين. غير أن كروبتكين كان قد كشف عن تقديره الكبير لغوركي قبل ذلك، ومنذ عام 1904 حين نشر في صحيفة "اندبندنت" البريطانية نفسها دراسة طويلة تناولت ما كان غوركي نشره حتى ذلك الحين، أي معظم قصصه القصيرة، لا سيما مسرحيته "الحضيض" التي قال عنها كروبتكين في الدراسة: "حسبكم أن تتعرفوا على هذا العمل، كي تفهموا السبب الذي يجعل مكسيم غوركي كاتباً يحظى بكل هذا القدر من الشعبية التي وصل إليها بسرعة قياسية".
أهل الحثالة وفلاسفتها
وحول شخصيات هذا العمل كما حول "أولئك النساء والرجال الذين يتحدث عنهم غوركي في حكايات له تحمل عناوين مثل "الرجال السابقون" أو "تيهيلكاش" أو "ستة وعشرون رجلا وصبية" يقول كروبتكين إنهم "ليسوا أبطالاً، بل هم أناس من الأكثر عادية وربما من الحثالة. وما يكتبه غوركي ليس قصصاً وحكايات، بل هو تصوير لمعنى العالم بشكل يبدو معه وكأن نصوصه تخطيطات توصّف الحياة نفسها. ولكن في كل آداب الأمم في أيامنا هذه، بما في ذلك في آداب كبار من طينة الفرنسي غي دي موباسان، قليلة هي الأعمال المشابهة التي نجد فيها مثل هذا التحليل الرهيف للمشاعر الإنسانية ولسيكولوجية البشر، مرسومة على خلفية ديكورات تنتمي إلى الطبيعة مباشرة". ويتنبه كروبتكين إلى أن شخصيات غوركي شخصيات تنطق بالحكمة والفلسفة دون أن تكون من الفلاسفة" ما يجعل هذا الكاتب "ابناً شرعياً لكل أصحاب الحكايات التي تملأ الأدب الفولكلوري الروسي". ويحدد كروبتكين أن "الشريحة التي ينهل منها غوركي ويرسم شخصياته منغمسة فيها، تنتمي أصلاً إلى مناطق روسية محددة تغوص في الجنوب العميق الذي يعيش قطيعة مع المجتمع المتأنق". ولعل هذا، في نظر كروبتكين يجعل غوركي واحداً من جماعته، ليحتل مكانة يندر أن يحتلها واحد من معاصريه. والحقيقة أن لينين وتروتسكي وحتى لوناتشارسكي لاحقاً، لم يكونوا في نظرهم إلى غوركي بعيدين عن نظرة كروبتكين.
أحداث العام التالي
مهما يكن من أمر، إذا كان اهتمام كروبتكين بأدب غوركي يجعل المناضل الفوضوي كاتباً تنويرياً إلى كونه سياسياً، فإن أدب غوركي نفسه كان من شأنه أن يضفي على هذا الأخير هالة سياسية لا مراء فيها وحسبنا للدلالة على هذا، أن نتوقف عند ما حدث عام 1905 أي في العام التالي لكتابة كروبتكين دراسته وتطويبه غوركي كاتب الثورة والتغيير بامتياز. فلئن كان غوركي عرف بأنه واحد من كبار الكتاب الروس عند بداية القرن العشرين، ولئن كانت خلافاته في آخر سنواته مع الحزب الشيوعي السوفياتي لا سيما مع ستالين، وصفت على نطاق واسع وجرى حديث طويل ومتجدد عن أن مقتله الغامض في عام 1936، كان نتيجة لتلك الخلافات، فإن ما جرى الحديث عنه، دائماً، أقل، كان سجنه ونفيه من قبل السلطات القيصرية، من ناحية بسبب مشاركته الفعالة في ثورة عام 1905، ومن ناحية ثانية بسبب نشاطاته اليسارية والبلشفية السابقة على ذلك، كما بسبب دعمه المادي والمعنوي للحزب الشيوعي. وفي هذا الإطار، لا بد أن نذكر بأن غوركي عرف في روسيا بداية القرن كمناضل سياسي وحزبي أكثر مما عرف ككاتب. من هنا حين انتفض الطلاب الروس يوم 26 يناير (كانون الثاني) 1905 انتفاضتهم الشهيرة بعد أيام قليلة من مجازر "الأحد الدامي" في سانت بطرسبورغ، كانت انتفاضتهم ذات هدف واحد، هو إرغام السلطات القيصرية على إطلاق سراح مكسيم غوركي الذي كان جل المتظاهرين يرون فيه قائداً حزبياً لا أكثر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مثير للشغب
وكان غوركي اعتقل بتهمة الاشتراك في "أعمال الشغب"، حسب تعبير تقرير الشرطة، وذلك خلال أولى التظاهرات التي شهدتها سانت بطرسبورغ، هو الذي كانت عين السلطات "محمرة" منه منذ أعوام، وتعتبره عنصراً أساسياً في نشر الدعاوى الحزبية البلشفية في أوساط الجامعات والمثقفين، إضافة إلى أن اشتهار اسمه في العالم الخارجي يجعل ثمة للأفكار البلشفية تأييد في الخارج. والحال أنه منذ اللحظة التي اعتقل فيها غوركي، تحركت الأوساط الثقافية في الخارج، في حملة تهدف بدورها للضغط على السلطات القيصرية لإطلاق سراحه. وبالفعل ما أن مرت أيام قليلة حتى أطلق سراح الرجل، فاستقبل لدى خروجه من السجن استقبال الأبطال. غير أن السلطات عادت واعتقلته في العام التالي، بعد أن هدأت الحملة الثورية (تم إطلاق سراحه بعد لأي) ما جعل غوركي يقرر الهجرة والعيش لفترة في الخارج، حيث عاش سبع سنوات معظمها في فيلا في جزيرة كابري الإيطالية كتب فيها مذكراته في ثلاثة أجزاء.
هذا المنفى كان تتويجاً، في ذلك الحين، لمسيرة مكسيم غوركي السياسية التي عرفت ذروتها منذ عام 1899 حين عاش في سان بطرسبورغ وتأثر بالأفكار الماركسية، ودعم الحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأمواله وقلمه. وحين حدث الانشقاق الكبير في ذلك الحزب في عام 1903، انضم غوركي إلى الجناح البلشفي، إنما دون أن ينتسب عملياً إلى الحزب الذي يقوده لينين، ومن المعروف أن غوركي اختلف مع لينين بصدد عـديد من الأمور الحزبية. بيد أن ذلك لم يمنعه أن يقدم للحزب مبالغ مالية اعتبرت في حينها، ولفترة من الزمن لا بأس بها، مصدر الدخل شبه الوحيد للمنظمة الحزبية في المدينة.
مخاوف السلطات
والسلطات التي كان أخشى ما تخشاه في مثل تلك الأزمنة أن ينضم شخص من طينة ووزن غوركي إلى حزب ثوري، بدأت تضايقه منذ ذلك الحين بشكل واضح. وهكذا، مثلاً، حين نشر قصيدة له في مجلة "جيزن" (الحياة) منعت السلطات المجلة واعتقلت غوركي لمرة أولى، ثم أطلقت سراحه فتوجه إلى القرم للاستشفاء من سل أصيب به. وفي عام 1902 انتخب عضواً في أكاديمية العلوم الروسية، لكن السلطات ألغت الانتخاب لأسباب سياسية، فما كان من تشيخوف وكورولنكو إلا أن انسحبا من الأكاديمية نفسها احتجاجاً. عند ذلك أسس غوركي داراً للنشر تحت اسم "المعرفة" (زناني) وكان هدفها تمكين الكتاب الثوريين الشبان من نشر أعمالهم. وراحت السلطات تحارب ذلك المشروع، وأخيراً حين اندلعت ثورة عام 1905، وكان غوركي في طليعة المسهمين فيها، كان اعتقاله من جديد، بالتالي كانت التظاهرات التي عنفت في مثل هذا اليوم من ذلك العام، محولة مكسيم غوركي من كاتب ثوري وفاعل خير حزبي مناضل، إلى زعيم سياسي يطالب المتظاهرون بإطلاق سراحه، حتى وإن كان معظمهم يجهل أدبه أو أنه أديب أصلاً.