لا شيء يمنع إيران من السعي إلى امتلاك سلاح نووي. لا الاتفاق النووي الذي تم التوصل إليه عام 2015. ولا الضغوط القصوى والعقوبات، واغتيال علماء الذرة وآخرهم محسن فخري زادة، وتعطيل العمل في منشآت نووية. اتفاق فيينا لم يوقف الغش والعمل سراً على البرنامج النووي العسكري. ولم يبدُ كأنه اتفاق، إذ خرجت منه أميركا بقرار من الرئيس السابق دونالد ترمب، وخرقت طهران التزاماتها بموجبه وتحدّت "الشركاء"، من دون أن يتبدل خطاب الحرص عليه. فهو ميت - حيّ في آن. والضغوط والعقوبات الإقتصادية الأميركية المؤذية لم تدفع إيران إلى التفاوض على سد النواقص في الاتفاق. وما قامت به إسرائيل من "إرهاب نووي" في منشأة نطنز وسمّاه وزير الخارجية محمد جواد ظريف بـ"مقامرة سيّئة جداً"، كان الرد الأولي عليه تحدي العالم بإعلان العزم على تخصيب اليورانيوم بنسبة 60 في المئة بعد 20 في المئة، مع أن المسموح به بحسب الاتفاق هو التخصيب بما دون 4 في المئة.
وفي البدء كان الخطأ. خطأ القراءة في دستور الإمام الخميني ونظامه. خطأ العمل بوسائل عادية لتحقيق أهداف استثنائية. وخطأ الرهان على أن تتخلى جمهورية الملالي عن "الثورة" وتختار أن تكون "دولة عادية" يتم التعامل معها بقواعد القانون الدولي في إطار الشرعية الدولية. فلا "الجمهورية الإسلامية" في إيران جمهورية حتى في الشكل. ولا "الشرعية الشعبية"، بصرف النظر عن نوعية الانتخابات وغربلة المرشحين في مجلس صيانة الدستور، سوى ديكور لما تُسمّى بـ"الشرعية الإلهية" التي يمثلها المرشد الأعلى. وكما يعلن سيد قطب و"الإخوان المسلمون" أن "الحاكمية لله"، كذلك يصف الملالي سلطتهم بأنها "الحكم الإلهي". حتى تعبير "إيران العظمى" الذي استخدمه الجنرال محسن رضائي، مستشار المرشد الأعلى علي خامنئي، فإنه إشارة إلى مرحلة على الطريق. إلى أين؟ إلى "السعي لبناء الأمة الواحدة في العالم، وهكذا تتحقق حكومة المستضعفين في الأرض" كما جاء في مقدمة دستور الخميني الذي يكلف قوات الحرس الثوري "حمل أعباء رسالتها الإلهية، وهي الجهاد لبسط حاكمية القانون الإلهي في العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذه مسلمات فقهية خارج النقاش السياسي. وترجمتها عملياً أن مهمة الثورة هي إعادة صوغ العالم وتشكيله. فالثورة تنفّذ قول الإمام الخميني في كتاب "الحكومة الإسلامية" إن "الحكومة الإسلامية هي توأم الإيمان بالولاية، وهي حكومة القانون الإلهي والحاكم فيها هو الله وحده، وهو المشرّع وحده، وكل نظام غير إسلامي هو نظام شِرك والحكم فيه طاغوت". وهي، بطبائع الأمور، تصطدم بـ"الشيطان الأكبر" وبقية الشياطين في العالم، وإن دفعتها الحاجة قبل مرحلة "التمكين" إلى التعاون مع بعض الشياطين كما في أوروبا وروسيا والصين. وأقل ما تطلبه حالياً، كما قال الوزير ظريف أخيراً، هو "العيش بشكل مختلف عن الآخرين". لكن كريم سادجادبور (محلل سياسات أميركي حول إيران لدى مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي) يرى أن "طموح الشعب الإيراني أن يكون مثل شعب كوريا الجنوبية، ولديه المواهب والكفايات، أما النظام، فيريد أن يحكمه مثل كوريا الشمالية".
ولا فائدة من دعوة الملالي إلى "تحسين السلوك" والتخلي عن برنامج "الصواريخ الباليستية" والتوقف عن "زعزعة الاستقرار" و"توسيع النفوذ الإقليمي". فهذه من أسس "الثورة". وتغيير سلوك النظام هو عملياً تغيير النظام. ومن دون الصواريخ والميليشيات والنفوذ الإقليمي، فإن جمهورية الملالي تفقد مبرر وجودها. وتلك هي المسألة. أما التفاوض على العودة الى الاتفاق النووي وإلغاء العقوبات وتوسيع الالتزامات الإيرانية، فإنه لا يبدّل الأساس، سواء نجح أو فشل.
والسؤال هو: هل على العالم التكيف مع إيران النووية؟ ما هي حدود التغيير في الموازين إذا حازت طهران سلاحاً نووياً؟ هل القنبلة هي أخطر ما في الترسانة الإيرانية أم أن السياسات أشد خطراً؟ وما هي الخيارات أمام العالم غير الحرب التي لا يريدها أحد؟
يقول راي تقية وإريك أدلمان في مقال نشرته مجلة "فورين أفيرز" تحت عنوان "الثورة الإيرانية الثالثة" إن "على واشنطن تغيير النظام في إيران، لا بالغزو، فهي لا تستطيع إسقاطه، بل باستخدام كل الأدوات لإضعاف دولة الملالي بما في ذلك مساعدة المنشقين والمساهمة في الظروف التي تجعل التغيير ممكناً". ولا شيء يوحي أن هذا ما تخطط له إدارة بايدن. فهي، بحسب وثيقة "التوجيه الاستراتيجي المؤقت"، تلتزم أن "تترك القدر اللازم من القوة في الشرق الأوسط" من أجل أهداف من بينها "ردع العدوان الإيراني". والأولوية لديها هي للتفاوض على اتفاق نووي "أوسع وأقوى".