"اصحى يا نايم، وحد الدايم، وقول نويت بكره إن حييت، الشهر صايم والفجر قايم، ورمضان كريم"، بهذه الكلمات يشدو ويطوف عم حماد السنوسي شوارع وأزقة مدينة الأقصر جنوبي مصر، لإيقاظ الأهالي للسحور. بعد ما قضى أكثر من ربع قرن في هذه المهنة، التي شهدت اندثاراً كبيراً خلال الأعوام الخمسة الماضية.
ويتفاعل أهالي مدينة الأقصر مع مواويل السنوسي أثناء إيقاظه النائمين من أجل تناول وجبة السحور، ويحرص الرجل على أن ينادي المواطنين بأسمائهم خلال جولاته في شوارع المدينة، كما يبادر المواطنون بتقديم بعض الهدايا والعطايا المادية والعينية إليه.
ميراث الأب
يقول حماد السنوسي، أقدم مسحراتي في مدينة الأقصر لـ"اندبندنت عربية"، "المهنة ورثتها عن والدي، ووجدت فيها روحي، لما أجده من محبة في قلوب الناس أثناء مروري في أوقات السحر لإيقاظهم. والدي أوصاني بألا أترك هذه الوظيفة ما حييت، لأنها خلقت لنا سمعة طيبة، خاصة بعد وفاة أغلب من كانوا يعملون في مهنة المسحراتي ليس في مدينة الأقصر، واندثارها في المدن المصرية بعد التقدم التكنولوجي الكبير".
وعن الشروط الواجب توافرها في المسحراتي يشير السنوسي إلى أنه "لا بد أن يكون صوته جميلاً، حتى يلقى قبولاً واستحساناً لدى الناس، وإلا سيكون مصدر إزعاج، وأن يحفظ عن ظهر قلب مجموعة من التواشيح والمواويل والأبيات الصوفية ليشدو بها على نقر الطبل أو الدف".
وأضاف، "المسحراتي لا بد أن يكون من أهل المدينة التي يعمل بها، وأن يلم إلماماً كاملاً بأسماء المواطنين في الأحياء، حتى ينادي عليهم، ويُحدث تفاعلاً معهم، كذلك يشترط أن يكون أميناً مع الناس، طالما استأمنوه على إيقاظهم لتناول السحور، فلا بد أن يسرع في ذلك قبل أذان الفجر بوقت كاف كساعتين على الأقل".
وتابع، "المقابل الذي يحصل عليه المسحراتي ليس راتباً محدداً، بل يستقبل كل ما يجود به الناس من طعام أو عطايا أو نقود رمزية، عبر المساعد الذي يسير معه، الذي غالباً ما يكون طفلاً صغيراً، حتى لا يتعطل عن مهمته في غناء المواويل والتواشيح". كاشفاً أن أصعب عام مر عليه هو عام كورونا، حينما حظرت الحكومة المصرية التجوال خلال الليل ضمن حزمة الإجراءات الاحترازية، ما منعه من ممارسة وظيفته لأول مرة منذ 25 عاماً.
تفاعل المواطنين
يقول أحمد رسلان، من سكان شارع شرق السكة بمدينة الأقصر، إن مرور عم حماد المسحراتي يحيي في نفوس المواطنين أجواء رمضان خلال الطفولة، ويضفي روحاً من البهجة لدى الكبير والصغير. مشيراً إلى أنهم ينتظرونه ليس بهدف الاستعداد للسحور فحسب، بل للاستمتاع بصوته الجميل بالتواشيح الدينية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار بيتر جورج، مواطن قبطي بشارع صلاح الدين الأيوبي بالأقصر، إلى أنه يستمتع بمرور المسحراتي، كونه من الأجواء الفولكلورية المرتبطة برمضان، الذي يعد أهم الشهور في التكافل الاجتماعي بين الجميع، فهو شهر الروحانيات والمشاعر الطيبة للجميع، والمسحراتي جزء منها، خصوصاً أنه ينادي على الأقباط في بعض الشوارع من أصدقائه كنوع من الفكاهة البريئة.
وذكر عبد المنعم عثمان، أحد أهالي منطقة الفيروز بالأقصر، أن الجميع يتفاعل مع المسحراتي باعتباره من الأجواء التي باتت تندثر سريعاً، بعد التقدم التكنولوجي السريع، فمروره يرسم البسمة والبهجة في قلوب الجميع، خصوصاً مع صوته وكلماته البسيطة التي تدعو الناس إلى الاستيقاظ لتناول وجبة السحور.
أصل المهنة
ويجمع المؤرخون أن أول مسحراتي كان عتبة بن إسحاق عام 228 هجرية بالدولة الفاطمية، حيث كان يذهب ماشياً من مدينة العسكر في الفسطاط إلى جامع عمرو بن العاص، وينادي الناس بالسحور، وكذلك هو أول من أيقظ الناس على الطبلة.
وازدهرت مهنة المسحراتي في العصر العباسي، ولعل أشهر من عمل بها "ابن نقطة"، فكان موكلاً إليه إيقاظ أسرة الخليفة العباسي، وكان صوته عذباً جميلاً يحفظ أبياتاً تحث على الزهد والتصوف، ولاقى شهرة واسعة في كتب النوادر والطرائف في ذلك العهد.
وكانت في بعض البلدان الإسلامية يلجأ المسحراتي إلى استخدام "الطنابير، والقيثارة، والطار" كالأندلس لإيقاظ المسلمين بهدف خلق تفاعل مع المسلمين.
وخلال القرن العشرين جسدت الأعمال التلفزيونية والرمضانية شخصية المسحراتي عبر كبار الفنانين والشعراء والمطربين، كسيد مكاوي، وبيرم التونسي، وفؤاد حداد، وفؤاد المهندس، وأخيراً، الفنان سيد رجب، لتوظيفها في قضايا اجتماعية وتراثية لاقت نجاحاً كبيراً، مع ذلك كله، تعاني مهنة المسحراتي اندثاراً وتراجعاً متواصلاً خلال 5 أعوام الماضية، طبقاً للعديد من الدراسات.