طبلةٌ صغيرةٌ، وصوتٌ عذبٌ، أدوات بسيطة يمتلكها المسحراتي، ليقوم بمهمته أو بالأحرى عشقه مدة 30 يوماً، إذ يضرب المسحراتي على طبلته، ويغني وينشد وينادي بصوته الجميل، وعلى مدى قرون توارثت الأجيال المهنة جيلاً بعد جيل بشكلها الكلاسيكي المعروف، في مواجهة التكنولوجيا، التي كانت سبباً في اندثار كثير من المهن.
مهمة تطوعية
في الوقت الذي تقوم فيه الأجهزة الذكيَّة بإيقاظ النائم في لحظة معينة يختارها بدقة ويحددها سلفاً، يبقى كثيرون مستمسكين بعادة السحور على صوت مألوف رفيق لهم منذ سنوات، يهدونه عيدية مع نهاية الشهر بكثير من الفرح والامتنان على تطوعه لإيقاظهم، فعلى الرغم من أن تلك المهمة لم تعد وظيفة كاملة مثلما كانت قبل عشرين عاماً، على الأقل، حينما كان يحصل المسحراتي على قوت يومه طوال العام من مهنته في إيقاظ الناس، خصوصاً لو كان قعيداً أو كبيراً في السن، فمقابل مشقته في الحفاظ على دقة مواعيده في إيقاظ أهالي المنطقة كانوا يكفائونه بما رزقهم الله ويقتسمونه معه ومع عائلته.
الآن، أصبحت "المسحراتي" مهنة عابرة في حياة من يحبونها فقط، إذ يحافظون على الطقس كل عام بمنتهى الاستمتاع والإتقان، ويبقى حاضراً على ألسنة مسحراتية مصر سيد مكاوي بندائه الشهير "اصحى يا نايم وحد الدايم وحد الرزاق.. رمضااان كريييم"، بكلمات فؤاد حداد الراسخة في القلوب.
النساء يحافظن على المهنة
السيدة دلال عبد القادر العمدة، أشهر مسحراتية بحي المعادي (محافظة القاهرة)، تستقبل الناس بصوت عذب، تشع المحبة من صوتها، وهي تدندن أغنيات السحور، التي تبدو بعيدة عن ذاكرة الجيل الحالي، وتتحدث بشغف عن محبتها مهنة المسحراتي، التي ورثتها عن الأب والأخ، فهي تؤكد أنها "اعتادت منذ أن كانت صغيرة أن تستقبل رمضان بفرحة، متجوَّلة على البيوت والشوارع مع شقيقها القعيد، الذي كان يزين كرسيه المتحرك، ويضع لمبة في طبلته ليبدو عريساً بجلباب وطاقية وشال باللون الأبيض"، حسب وصفها.
وتقول الحاجة دلال، لـ"اندبندنت عربية"، "أنا في نهاية الأربعينيات، ولديّ أحفاد، وانتظمت بمفردي في مهنة المسحراتي منذ سبع سنوات تقريباً بعد أن توفى شقيقي، وأبدأ ندائي بأغنية سبحة رمضان لولي ومرجان، ثم أغنية سيد مكاوي الشهيرة، حيث أنطلق مع ابني في الساعة الـحادية عشرة، وأتجول في الشوارع والأحياء المجاورة، وأنادي على جنا وتمارا وريتاج ومحمد وحسين وأبو عبده"، وهي مجموعة أسماء تحفظها الحاجة دلال مع غيرها لتنادي على كل منزل بأسماء ساكنيه، ولتزيد من الحميمية والألفة مع من ينتظرون صوتها.
وتشير إلى "أنها تعشق ما تفعله، وتتمنى أن لا تنقرض مهنة المسحراتي أبداً"، مؤكدة "أن الرونق الحقيقي لتلك الطقوس في المناطق الشعبية بمصر".
على خطى الأب
الحاج خليفة محمد، كان من أشهر مسحراتية منطقة المهندسين، إذ عُرف بدأبه الشديد على إيقاظ الناس بطبلته الصغيرة، على الرغم من تقدمه في العمر، فإنه حتى سنواته الأخيرة كان يقوم بمهنته، وينادي على أصحاب البيوت بأسمائهم، وكانت تربطه علاقات وطيدة وودودة مع أغلب من ينادي عليهم في الشوارع المجاورة، إذ كان يسير مصطحباً بعض أبنائه معه.
من بين أبنائه كانت هناك طفلة صغيرة حفظت كل ما يقوم به، وأحبت أن تسير على خطى الأب، حتى بعد أن كبرت، وأصبحت أماً لشباب ناجحين، هي ما زالت على الدرب، وبعد وفاة الحاج خليفة محمد مسحراتي المهندسين الأشهر، تواصل ابنته أمل خليفة المهمة في منطقة ميت عقبة، حيث تحفظ أسماء ثلاثة أجيال في كل بناية وتنادي عليهم فرداً فرداً.
تتابع أمل خليفة، "لديّ أربعة أبناء، اثنان منهم تخرجا في الجامعة، كما أن لديّ عملا مستقلا بعيداً عن مهنة المسحراتي، إذ أمتلك أحد الأكشاك الصغيرة بالمنطقة".
وتؤكد، أن "بامتداد شارع محمود بدر الدين وحتى وادي النيل، وما بينهما الكل يعرفها، وبعضهم يتصلون بها للاطمئنان عليها، ويشددون عليها أن تحافظ على عادتها بالقيام بمهمة إيقاظهم على وقع طبلتها، إذ باتت تخرج بصحبة ابنها الأصغر الذي يرافقها برحلتها طوال ثلاثين يوماً".
في الصعيد أيضاً النساء يحافظن على مهنة المسحراتية حباً في إحياء عمل الأجداد، وبينهن الحاجة زينب محمود، التي أحبت مهنة الأب والجد وسلكت طريق مهنة غير معتادة بمحافظة جنوبية مثل قنا، فهي تنشد وتبتهل ومعها طبلتها، وتؤدي مهمتها كمسحراتية من دون كلل.
عشق ميراث الأجداد
وفي حي عريق بمصر القديمة، لا ينسى سكان منطقة "السيدة زينب" الحاج عبد القادر محمود، أشهر مسحراتي في المنطقة، الذي أكمل المسيرة بعد أبيه، متشبثا بكل أصول المهنة من إنشاد ووصل المودة وتأسيس علاقات إنسانية واجتماعية مع سكان الشوارع، وهو يعتبر من أبرز معالم منطقة "السيدة زينب".
حب مهنة المسحراتي يتوارث في العائلات أباً عن جد، وكما هو واضح يحركه في الأساس حب مشاركة الناس فرحتهم، وهو أمر يتحقق كذلك في قصة أشهر مسحراتي في أشهر منطقة رمضانية بالقاهرة "حي الحسين"، إذ عرفت تلك المنطقة بعائلة درويش حسن، أشهر المسحراتية، وتتوارث المهنة أجيال وراء أجيال، ومن بين أشهر من عرفوا بها الحاج درويش أحمد درويش حسن، الذي دأب على أن يوقظ الناس بصوته الجميل من خلال عشرات الأناشيد التي يحفظها سكان منطقة الحسين وضواحيها متجولاً بطبلته، ومنادياً على المسلمين الذين يستعدون للصيام بأسمائهم، وعلى بعض الأقباط ممن يسكنون المنطقة أيضاً، إذ كانوا يطلبون منه هذا الأمر دوماً مشاركة منهم في هذا الطقس المصري الصامد منذ قرون.
المسحراتي الأبكم!
من أبرز المسحراتية، الذين عرفتهم المناطق الأثرية والشعبية بمصر أيضاً محمد التونسي، الذي يتجول مرتدياً الجلباب والسبح وماسكاً بالدف، ويردد الأغنيات التراثية التي تليق بالمكان الذي يتميز بكونه مصدراً دائماً للمسحراتية، إذ اشتهر فيه أكثر من مسحراتي.
ومن القاهرة إلى المحافظات، وتحديدا جنوبي مصر محافظة الأقصر، إذ يعتبر الحاج أسعد سليم من أبرز نجوم المسحراتية هناك، وقد بدأ مهنته منذ عام 2002، وحقق صداقات وطيدة مع أطفال الشوارع، التي يوقظ سكانها بالمدينة، وعلى مدار الثلاثين يوماً يستيقظ الأطفال والصبية ليسيروا وراءه مرددين الأغنيات وسط سعادته بصدى مهنته التي ورثها عن الأجداد.
وإلى كفر الدوار (محافظة البحيرة)، إذ يعرف رواد منطقة مساكن شركة الغزل بالمدينة الرجل الذي يعمل كمسحراتي منذ عشرين عاماً السيد عبد الواحد، إذ يسير بمجموعة من الأدوات المضيئة، مثل الكشافات، ويبتكر كل عام فكرة جديدة تجذب الأطفال، وتجعل من ظهوره أكثر بهجة، وهو ينادي على النائمين ليستيقظوا ويتناولوا سحورهم.
وعلى بعد مسافة ليست بعيدة، وتحديداً في محافظة الإسكندرية، يسكن عم أحمد المسحراتي الأبكم، الذي يوقظ الناس بمحبة وبمجموعة أصوات يصدرها تعينه عليها طبلته، يجوب الشوارع منذ أكثر من ثلاثين عاماً، إذ حفظت قدماه الخطوات، وحفظه أيضاً سكان أكثر من منطقة عبر عدة أجيال، ويعتبر أحمد من أشهر مسحراتية الإسكندرية وأكثرهم شعبية، وحسب ما قاله أحد سكان المنطقة ممن قابلوا "عم أحمد" بالمصادفة قبل فترة فإن الرجل يتمتع بحب وتقدير كل سكان المناطق التي يتجوَّل فيها، وهم ينتظرونه من العام إلى العام.