عبثاً يقاوم الطفل "وجد" رغبته في شرب كوب من الماء مع اقتراب الظهيرة، ويحاول الصمود أمام حاجته للمأكل والمشرب، وهو في عمر السابعة يجاري أبويه في إحجامه عن تذوق الأطباق ريثما يتناولها من المائدة الرمضانية حينما يتحلق أفراد عائلته حولها عقب أفول شمس يوم من أيام شهر رمضان.
ذكريات الطفل الصائم
ولعل رشفة من الماء خلسة بعيداً عن أعين أي من أفراد العائلة أو صحبته من أولاد الحي، كفيلة بسد رمقه، وتبعده في الوقت ذاته عن فضيحة مدوية في عالم طفولته الخاص، فإذا ما اكتشف أقرانه بالمدرسة أو غيرهم أمره لن يتركوه في سبيله حين يعلموا أنه غير صائم!
كما أن "المفطر" ممن يأكل أو يشرب ما يحلو له، دون أن يلتزم بشهر الصوم له في عرف الصائمين الصغار وعالمهم "توبيخ" فيما بينهم، علاوة على نيله نصيباً من التقريع العلني، أو أن تصيبه همسات تسري سريعاً بين أصدقائه عن الجرم الذي اقترفه.
يقول والد الطفل "وجد" يصر ابني أن يمتنع عن الطعام معنا مقلداً صيامنا الطويل، لكنه لا يقدر أن يحجب رغبته في المأكل والمشرب لفترات طويلة، لا سيما مع طقس بدأ يميل للدفء، فالجوع والعطش ينهكان جسده الصغير... "يذكرني ولدي بمواسم رمضانية كنت في سنه، لقد كان أبواي يحرصان على صومي معهما إلا أنهما يقدمان لي في فترة الظهيرة الطعام رأفةً منهما بحالي".
"المفطر" الصغير وعواقبه
"مفطر دم يا بياع السم" أول الصرخات الشعبية التي تتعالى من الأطفال في الشارع أو المدرسة، عقب مشاهدة واحد من أقرانهم من دون صيام، أو إمساكهم له بـ"الجرم المشهود" قد يكون تناول قطعة حلوى، أو أنعش ريقه الجاف بشربة ماء.
هذا ما يرويه الباحث في التراث الشعبي، جمال محبك، إذ يتحدث عن طريقة شعبية للصوم درج عليها الأطفال في سوريا خلال شهر الصيام تسمى "درجات الحمام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويتحدث لـ"اندبندنت عربية" عما يشعر به الصائمون من المتعة والطرافة، إذ يرغب الصغار بتقليد الكبار ويواظبون بصيامهم الطويل على مجاراة أهلهم، حيث تغيب عن المائدة وجبتا الإفطار والغداء كل يوم، ولمدة شهر كامل. بالمقابل، تقدم الأمهات للأولاد الصائمين بعد فترة صيامهم "عروسة"، وفق ما يطلق عليها أهل دمشق، وهي (سندويشة) حتى أذان المغرب.
الغزال والعصفور والحمام
ويعتقد الباحث محبك أن الدافع لخوض تجربة الأطفال قبل سن 15 عاماً، مرده التقليد، حيث يتلقون تحفيزاً من أسرهم على الصوم "درجت العادة قديماً على اعتبار امتناع الصغير في هذه السن عن المأكل والمشرب في الفترة الصباحية بصوم درجات العصفور، ومن يبقى على هذا الحال لفترة الظهيرة يسمى صوم درجات الحمام، ومن يصمد منهم لفترة العصر، تسمى درجات الغزال".
الطريف في الأمر كيف يتعامل الأطفال بكل جدية مع ما يتعلق بالصوم، حيث يجتمعون، ويختبرون بعضهم بعضاً عبر مد الألسن، وفي حال كان لون اللسان أبيض فسيكتشفون إفطار أحدهم وستنهال عليه عبارات التقريع الساخرة والاستهزاء، مع التصفيق والجري خلفه.
التربية وتحمل المسؤولية
في غضون ذلك، لا يتعارض هذا الصيام مع الرحمة بهم، أو التشديد عليهم، فالتربية تقتضي في كثير من الأحيان تحمل المسؤولية، بحسب ما لفت إليه الأكاديمي جميل ترمانيني، المتخصص بالشريعة والقانون. وأضاف حول موقف الدين من صوم الأطفال، "لقد اهتم ديننا الحنيف بهذه المرحلة اهتماماً بالغاً، واعتبر القدوة الصالحة أساساً في تنشئة الطفولة". وأضاف، "أولادنا بالدرجة الأولى مقلدون، قال تعالى: (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم)، ومن بين هذه العبادات الصيام، فكان السلف حتى يعودوا الأطفال على الصيام يتدرجون معهم في التربية، ولا يعفونهم منها، ويحملونهم مسؤولية الصيام مهما اختلفت الأساليب والأوقات في تحديد ذلك".
النتيجة المقصودة
ويختتم ترمانيني بأن الطفولة تتكون فيها المبادئ، بينما تحتوي المراهقة على التجارب، والاكتشاف، والشباب هي مرحلة التصادم بين الواقع وما حققه الإنسان من كلتا المرحلتين، أما الرجولة فهي الاستقرار لذلك، وقال رسول الله (ص): "من ربى ولده صغيراً فرح به كبيراً".
في هذا السياق، يرى أن النتيجة المقصودة واحدة ألا وهي تنشئتهم نشأة صالحة، ولا ريب أن ذلك يعكس الاستقامة في المجتمع بصلاح الأجيال "ولذلك كانوا فتنة لنا إن اجتهدنا في إصلاحهم أثمروا براً وخيراً، وإن قصرنا كان الثمر حنظلاً، قال الله تعالى: (واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة).
وهكذا، ما زالت عادات شعبية تحظى باهتمام شعبي من منطلق ديني واجتماعي، ومنها صوم "درجات الحمام" حافظ الموروث الشعبي على احتوائها، وعدم التفريط بها على مر الأزمان وتعدد الأجيال.