يقرر يوناس إبنسر أن ينهي حياته في ذكرى ميلاده التاسعة والأربعين، في الخامس والعشرين من مايو (أيار)، لكن الكاتبة الأيسلندية أودور آفا أولافسدوتير تستهل روايتها "فندق الصمت" (ترجمة حسام موصللي، دار الآداب) بخاتمة الرواية التي تعنون فصلها بالحادي والثلاثين من مايو، أي ما بعد ذكرى ميلاده بستة أيام حين ينتهي بأحضان امرأة، ويتجاوز موعده مع الانتحار. فيوناس يعيش أزمة وجودية تجعل الحياة عصية على العيش. وتتسلل الهواجس الوجودية على امتداد الرواية كأمور بسيطة وعادية جنباً إلى جنب مع قضايا مهمة تتصل بمعاناة البشر. وهي لا تني تتكرر في أكثر من بقعة في العالم، في مفارقات لا تنتهي كالحروب ومعاناة النساء والمخاطر البيئية لانقراض العديد من الحيوانات والدعوات الزائفة لإنقاذها، حيث سفينة صيد الحيتان تتجاور مع سفينة حماية الحيتان في المرفأ نفسه، في حين يهدد التغير المناخي بذوبان البحار الجليدية، فضلاً عن الإبادات الجماعية التي تترافق مع الحروب وتقع النساء أولى الضحايا لها.
تتكشف "أزمة يوناس" – وهو الشخصية الأساسية للرواية - عبر شخصيات فرعية أخرى تعبر في مأزق الوجود لهواجس تتردد على أفواه هذه الشخصيات، فتبدو كصدى لأزمة يوناس الوجودية نفسها. يصغي يوناس لجاره سفانور من غير أن يعلق أو يتبادل الحديث معه، أو يبدو أنه مهتم لما يقوله. فكل هم يوناس هو التقاط الوقت المناسب أثناء الحديث كي يملك شجاعة أن يطلب من سفانور "بندقية الصيد" التي ينوي استعمالها في "انتحاره" (تماهياً مع انتحار الكاتب الأميركي إرنست همنغواي) من غير أن يثير شكوكه حول وجهة استعماله لها. بعد الخاتمة التي وضعت في البداية كتقنية سرد، تبدأ أحداث الرواية في أيسلندا مع "أمه" - نزيلة مأوى المسنين - التي تشغلها أخبار الحروب وأهوالها، حيث تصطف على رفوف المكتبة في غرفتها كتب تضم أعمالاً أدبية في غاية الشهرة من مثل "ثم تشرق الشمس" لإرنست همنغواي، و"الحرب والسلم" لتولستوي، وغيرهما. يتصفحهما يوناس في حين توحي أودور آفا أولافسدوتير بما ينطوي على هواجس مشتركة بينهما - يوناس وأمه - لغياب المعنى في حياة أشبه بفخ ينصب للإنسان لحظة أن يولد. ما تلبث أن تنتقل الأحداث إلى بلد آخر تدور في رحاه حرب مدمرة - كبلدان أخرى كثيرة في العالم. اختار يوناس هذا البلد من الإنترنت بغرض السفر لتنفيذ خطته بالانتحار هناك، بعد بحث مكثف كي يموه الغاية من هذا الاختيار بوصفه مجرد سياحة. فهو بلد لم يعد أخطر بقعة عنف في العالم، بل واحدة من أخطرها بعد الهدنة التي أبرمت بين المتحاربين، كي يأتي موته كما لو أنه لم يحدث عن عمد، بل موت مجاني بين حيوات كثيرة هدرت.
تفاصيل واقعية
اختار يوناس هذا البلد - الذي لا يعرف لغته - بدقة كي يحقق فيه رغبته في الانتحار بعيداً عن ابنته وعن أمه. يفعل ذلك، حين يعزف يوناس عن استخدام بندقية الصيد وعن إطلاق النار على نفسه داخل شقته التي تملك مفاتيحها ابنته ووترليلي، خشية أن تجد جثته وسط غرفة المعيشة مرمياً بالرصاص، أو تتدلى من سقفها في حال قرر أن يشنق نفسه. تمضي الرواية وهو يخطط للانتحار، ويدخل في تفاصيل دقيقة ساذجة وغبية قياساً ومقارنة بحجم حدث كالانتحار (في إشارة إلى فقدان الحيلة والعجز عند الفرد حتى وهو ذاهب طوعاً إلى الموت)، ويغرق في تفاصيل واقعية، لكنها مشبعة بسخرية الإنسان من نفسه. وحين تساور سفانور الشكوك بنواياه (يوناس)، يتهرب من إعطائه الذخيرة بذريعة نفادها لديه بعد آخر رحلة صيد قام بها، وإن حاول ألا يظهر ذلك ليوناس. فيما يوناس تساوره التساؤلات حول ما يشغل تفكير سفانور الذي تضاعفت زياراته له خلال الأيام القليلة الماضية. فتارة أراد استعارة مفتاح إنجليزي بحجم محدد، وطلب منه أن يساعده في حمل الثلاجة الجديدة التي اشتراها للتو، كي يضعها في الكرافان.
ومع ذلك، وقبل كل شيء، كان يرغب في التحدث مع يوناس عما يشغل تفكيره: العربات الآلية، وأوضاع المرأة في العالم، في خلفية نسوية للسرد، جنباً إلى جنب مع منح قضية المرأة بعدها الوجودي الذي تستحق، في سياق السرد لرواية "فندق الصمت" بوصفها قضايا عالقة لا تزال تنضوي ضمن الأزمة الوجودية الشاملة للبشرية. وهو ما يدفع سفانور في نهاية الرواية لأن يقول لووترليلي - عالمة الأحياء البحرية - بعد قيامه بمساعدتها في التحقق من توازن العجلات في سيارتها، ومعانقتها بما يشبه الوداع، "إن المرأة مستقبل البشرية"، وذلك قبل أن يغرق نفسه في المحيط. تمهد أودور آفا أولافسدوتير نهاية سفانور الحزينة والصادمة ليوناس وابنته بمتابعته وثائقيات تتحدث عن عذابات النساء في أنحاء العالم، كتعرضهن للختان والاغتصاب، لا سيما في الحروب، والزواج القسري ووفيات كثيرة أثناء الولادة.
يوناس الذي يقرر الانتحار، من غير أن يتضح سبب مباشر لهذا القرار، بل تبدو جملة أسباب منها ما يتعلق بابنته ووترليلي التي علم أنها "ليست ابنته" باعتراف زوجته غوردون، حين قررت الانفصال عنه. ومنها ما يتعلق بهذيان أمه حول العنف وأهوال الحروب التي اجتاحت العالم ما قبل (وما بعد) حربين عالميتين، وما يتخللهما من استغلال لفرص الإثراء من الحروب (كبيع الآثار التاريخية مثلاً)، وانعدام الأخلاقيات الإنسانية وتوحش الدمار الذي ينتج عنها... فضلاً عن هواجس ووترليلي عن الكوارث البيئية التي تتهدد الكوكب بكل مخلوقاته، وفقدان المعنى في علاقات الحب والزواج، كما في حالة يوناس وسفانور والأثمان الباهظة التي يدفعها الأفراد في الحروب العبثية ودورات العنف المتواصلة التي تفتك بحياة البشر، لا سيما النساء والأطفال - كما في حالة ماي وابنها - التي يتعرف إليها يوناس كعاملة في "فندق الصمت" في ذلك البلد الذي سافر إليه كي ينفذ خطته بالانتحار، مصطحباً معه "عدته" ومثقاباً ما يلبث أن يستعملهما في إصلاح الفندق المحاط بحقول ألغام، يتعمد يوناس السير فيها على الرغم تحذيرات ماي وشقيقها آدم مدير الفندق.
هواجس ذاتية
تتعلق ماي وابنها بيوناس، وتحثه على بداية جديدة كي ينهضا معاً "من الدمار" الذي يحيط بفندق الصمت، عبر إقناعه بإصلاح البنية التحتية لغرف الفندق من أنابيب المياه والتمديدات الكهربائية. بل أيضاً يمتد هذا الإصلاح ليشمل المنزل الذي ستسكنه ماي مع سبع نساء، والمطعم المقابل لفندق الصمت ولبيوت ومنازل من تبقى من سكان أحياء في ذلك البلد المدمر بعد ما ذاع صيته كمصلح. ينتهي المطاف بيوناس في أحضان الممثلة الشهيرة التي فقدت مهنتها بسبب تقدمها في العمر والحرب على حد سواء، وانزلقت في تصوير أفلام وثائقية مع "الناجيات" من النساء، لا سيما عن جرائم الاغتصاب التي تعرضن لها وإنجابهن أطفالاً من مغتصبيهن، أو ترملن أثناء الحروب، فضلاً عمّن أصيبوا بإعاقات الحروب وحقول الألغام. وعلى الرغم من الإعجاب المتبادل بين يوناس وماي ومحاولات ماي الحثيثة إقامة علاقة معه، لكنه يحجم عنها، فهي من عمر ابنته أو أكبر قليلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وما بين الإغراء والإحجام والتردد وهو الذي لم ينم مع امرأة منذ ثماني سنوات تشمل آخر سني حياته مع زوجته غوردون، وحتى بعد طلاقه منها منذ سنة تقريباً، يجد نفسه يتعرى تماماً أمام الممثلة بعد أن تمر أيام على عيد ميلاده "الموعد المقرر لانتحاره" في خضم انشغاله بإصلاح "فندق الصمت"، وأماكن عديدة في المدينة المدمرة، إلا من بعض أحياء ومبانٍ. وتعيد أولافسدوتير كاتبة الرواية سرد البداية في الخاتمة التي بدأت بها الرواية، لتترك القارئ معلقاً على بوابة "الانتحار" المزعوم ما بين الهواجس جميعها، داخل "فندق الصمت" الذي كان شاهداً على كل الأهوال والمآثم وأحلام البدايات أو أقله إصلاح ما تهدم أو فسد، أو عبر بث الحياة في معنى الحياة أو جدواها في عالم يهتز تحت عبء الوجود.
حازت رواية فندق الصمت للكاتبة الأيسلندية أودور آفا أولافسدوتير جائزة المجلس الأعلى للأدب الإسكندنافي وجائزة أفضل رواية أيسلندية، واختارتها "اندبندنت" البريطانية واحدة من أفضل عشر روايات عالمية لعام 2018.