"لوحات لبنان"، هو عنوان المعرض الذي يستضيفه غاليري ميم في دبي حتى الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) المقبل لأعمال الفنان العراقي البارز ضياء العزاوي. ويضم المعرض مجموعة كبيرة من أعمال الفنان التصويرية التي أنجزها خلال إقامته في إحدى القرى الواقعة في الشمال اللبناني. هذه الأعمال التي أنجزها العزاوي خلال فترة إقامته في محترفه في لبنان تحمل في طياتها روحاً جديدة تنضح بالحيوية. وقد يعود الأمر إلى طبيعة المشهد الخلاب لبلدة شكا المطلة على الساحل اللبناني التي انتقل إليها الفنان بعد سنوات عدة من الإقامة في لندن. غير أننا على الرغم هذا، نستطيع أن نلمح بعض التيمات والعناصر الأثيرة لديه، هذه التيمات التي ميزت أسلوبه خلال السنوات الأخيرة، ولعل أبرزها هذه المراوحة بين اللون من ناحية وتقاطعات الأسود والدرجات المحايدة من ناحية أخرى.
ما يميز الأعمال الأخيرة لضياء العزاوي هو انتقالها بين طبقات عدة، فهو يمزج خلالها بين مستويين أو أكثر في أسلوب بنائه للمساحات، كما يوائم متعمداً بين فضاءات لونية متباينة، فضاءات يغزوها الأسود بحضوره اللافت، ويتخللها الأحمر الناري أحياناً أو الأزرق الفاتر بدرجاته وتنوعاته.
تقاطعات لونية
في لوحته التي تحمل اسم "وجه الغريب" نجده قد أحاط العناصر بإطار من اللون الأسود بدا أشبه بالسياج أو وسيلة للحماية. هذا الحضور الطاغي للون الأسود بثقله المعهود يضفي على المشهد مزيداً من الغموض، ويلفت انتباهنا إلى هذا الوجه القابع في قلب اللوحة والمحاط بتقاطعات من اللون الصريح. وفي عمله "وجه متخيل" يؤكد العزاوي مستويين اثنين داخل اللوحة: خلفية قاتمة تتشكل تفاصيلها بفعل تقاطعات من عناصر ذات ألوان حيادية، تعلوها مساحة أخرى بارزة تغلفها درجات اللون الصريحة للأحمر والأزرق والأصفر. وفي المنتصف يبدو ذلك الوجه النابت من بين هذه التقاطعات اللونية كالجنين أو كالأحجية البصرية التي تدعوك إلى فك طلاسمها. هكذا يراوح العزاوي بين الوضوح والإخفاء، ويرتحل بفرشاته بين صخب اللون تارة وسكون الأبيض والأسود تارة أخرى. وبين هذا وذاك يسكن طيف شاحب لعنصر وحيد هو في منزلة القلب النابض من اللوحة.
تتسم تجربة الفنان الكبير ضياء العزاوي باتساعها لوسائط فنية عدة وثرائها بكثير من المؤثرات والانعطافات الأسلوبية، في طريقة التلوين ومعالجة الأسطح أو في اشتغاله على الموروث العراقي والعربي. ومن أهم العلامات في تجربة العزاوي كذلك يبرز استلهامه للخط والكتابة العربية في أعماله، وعلى الرغم من حضور هذا الاهتمام بالخط والكتابة العربية ضمن تيار حروفي أوسع داخل التجربة الفنية العراقية والعربية، فإن تجربة العزاوي مع الحرف العربي تحتفظ بخصوصيتها وفرادتها البصرية. استلهم العزاوي في أعماله النصوص الشعرية ووظفها في تجاربه مع الطباعة كما في مجموعتيه "لا نرى إلا جثثاً" و"ألف ليلة وليلة"، كما عمل مع الشاعر المغربي محمد بنيس لإعادة كتابة نصوص "طوق الحمامة" لابن حزم، وكذلك مع الشاعر البحريني قاسم حداد لكتابة نص "مجنون ليلى".
شكلت دراسة العزاوي للآثار في الوقت الذي كان يدرس فيه في معهد الفنون، عاملاً فارقاً في تشكل تجربته البصرية، هذه التجربة التي تستند في جانب كبير منها إلى الإرث الحضاري والمعرفي للعراق. يتجسد ذلك في الأساليب والأفكار المتشعبة التي انعكست على أعماله لاحقاً مدفوعة بطاقة من التجريب والسعي نحو بناء قيم فنية ذات خصوصية ومؤسساً لعمل بصري بهوية عراقية وعربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بدأ العزاوي مسيرته الفنية في منتصف الستينيات من القرن الماضي بعد تخرجه في قسم الآثار بكلية الآداب في بغداد. وقد أسس بعد تخرجه مع الفنان رافع الناصري ومجموعة من الفنانين العراقيين البارزين جماعة "الرؤية الجديدة" التي كان لها أثرها الفكري والثقافي على المنتسبين إليها. من خلال مشاركته في تلك الجماعة اتجه العزاوي إلى استلهام التاريخ والموروث العربي وتوظيفه في عديد من الموضوعات والقضايا المعاصرة.
ولعل إقامته الطويلة في لندن بداية من منتصف السبعينيات من القرن الماضي، كان لها دور بارز في صقل تجربته وتشكيل وعيه الفني، فهي الفترة التي بدأ خلالها اكتشاف الطباعة كما شهدت محاولاته الأولى في النحت وإنتاج الأعمال الجدارية الكبيرة.
واكبت أعمال ضياء العزاوي عديداً من الأحداث والصراعات والمآسي العربية، ولعل لوحته الشهيرة التي جسد فيها مجزرة صبرا وشاتيلا، هي أبرز مثال على ذلك، وهي لوحة كبيرة يتخطى عرضها سبعة أمتار، وقد اشتراها متحف تيت غاليري في لندن عام 2010 لتنضم إلى مقتنياته من الأعمال الفنية المهمة لأبرز فناني العالم.