تضخمت استحقاقات الدولة اللبنانية خلال الأعوام القليلة الماضية، حتى أصبحت الحلول مستحيلة. ويقف لبنان عاجزاً أمام الملفات المتراكمة الاقتصادية والمعيشية، من فقر وبطالة وفساد ودين عام، وغيرها من القضايا التي تتطلب حلولاً فورية وسريعة وجادة. ترافق تلك الأزمات معضلات سياسية متشعبة ومعقدة، منها ما لها علاقة بالنظام اللبناني، وأخرى لها علاقة بمصالح السياسيين الخاصة. ومع هذا، يتصرف المسؤولون وكأن البلد بألف خير، فلا تتألف الحكومة ولا تجتمع حكومة تصريف الأعمال، والرئيس المكلف سعد الحريري يتنقل بين العواصم العربية والأجنبية بحثاً عن حل للأزمة الداخلية.
وكانت حكومة تصريف الأعمال برئاسة حسان دياب استقالت بعد تفجير مرفأ العاصمة بيروت في الرابع من أغسطس (أب) الماضي، ببضعة أيام. وكُلّف سعد الحريري تشكيل حكومة منذ 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، أي منذ ما يقارب النصف عام، بعد اعتذار مصطفى أديب عن هذه المهمة نتيجة مصاعب وعثرات عدة واجهته. ويتبادل الاتهامات منذ ذلك الوقت رئيس الجمهورية ميشال عون والرئيس الحريري، كل واحد يلقي باللائمة على الآخر بتعطيل تشكيل الحكومة وعرقلتها لأسباب كثيرة و"حرب بيانات" دورية، في بلد تتصارع فيه مصالح الدول الإقليمية والغربية.
عقوبات أوروبية في الطريق
هذه الخلافات دفعت المجتمع الدولي إلى التدخل بعد عجز المبادرات واستعصاء الحلول لإخراج لبنان من أزمته، منها مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما عرف بـ"المبادرة الفرنسية". ولم تسفر الاتصالات الواسعة التي قام بها ووزير الخارجية جان إيف لودريان والخلية الخاصة بقصر الإليزيه، بالمسؤولين اللبنانيين عن أي نتيجة. هذا الأمر دفع الوزير الفرنسي إلى إبلاغ المسؤولين الثلاثة عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري والحريري بأنه "يجب فوراً إنهاء التعطيل المتعمد للخروج من الأزمة السياسية"، مشيراً إلى أن الاتحاد الأوروبي يبحث سبل ممارسة ضغوط على الجهات التي تعرقل إيجاد مخارج من الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية والاجتماعية في لبنان". وأضاف أنه "لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يقف مكتوف الأيدي فيما لبنان ينهار".
ولدى استطلاع رأي باحثين في الشؤون الأوروبية والسياسة اللبنانية الداخلية حول معنى دخول لبنان بالفوضى العارمة؟ وأسباب تروّي المجتمع الدولي قبل التدخل؟ وما هو الانهيار الذي يتحدث عنه الجميع؟ هل هو سقوط النظام أم الدولة؟ وما مدى جدية التهديد بالعقوبات الأوروبية؟
كان جواب الباحث في الشؤون الأوروبية تمّام نور الدين، المقيم في العاصمة الفرنسية باريس، أن لودريان استلم الملف اللبناني وهو عندما يصرّح يكون بلسانه ولسان الرئيس ماكرون، وهذا ما يعطي كلامه مصداقية". ويتابع "وتوجّه لودريان في وقت سابق إلى مجلس الشيوخ الفرنسي بصدد اتخاذ إجراءات ضد معرقلي تشكيل الحكومة، وقال لودريان إن كل المسؤولين اللبنانيين لا يريدون الاتفاق في ما بينهم، وهناك فئة تعرقل وتطالب بأمور قديمة ومتهورة. إضافة إلى ذلك وهو الأهم أن لودريان قال إن فرنسا تريد مساعدة المجتمع المدني لأن هناك أشخاصاً من هذا المجتمع يريدون خدمة بلدهم بصدق".
المسؤولون اللبنانيون فقدوا احترام المجتمع الدولي
ويضيف نور الدين أن "المسؤولين اللبنانيين فقدوا كل مصداقية بالنسبة إلى المجتمع الدولي، ولا أي شخصية من شخصيات الصف الأول يحظى باحترام بعدما أخلّوا بوعودهم بدعم المبادرة الفرنسية. ويوصف لودريان بأنه رجل كل العهود وبأنه لا يتكلم باسم وزارة أو وزير بل باسم الدولة العميقة في فرنسا، ومن أهم الوزراء الذين مرّوا خلال الجمهورية الخامسة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويشير إلى المسار الذي تتخذه الإجراءات التي تتم من خلالها العقوبات. ويقول إنه "من الممكن استعمال تعبير آخر للإشارة إلى العقوبات منها (إجراءات تقييدية) ضد المعرقلين، وقد يذهبون أبعد من هذا لتطال مَن عرقل المبادرة الفرنسية". ويردف أن العقوبات ستكون أوروبية وليست فرنسية. وقد بدأت فعلياً تلك الإجراءات منذ يوم الاثنين 19 أبريل (نيسان) الحالي، وهذا ما جاء على لسان الناطق باللغة العربية باسم الاتحاد لويس ميغيل بوينو. وبعدما صدر الأمر بإيجاد وسائل للضغط، بينها حجز الأموال ومنع السفر ضمن نطاق دول الاتحاد الأوروبي، يُحوّل الملف إلى اللجان الإقليمية المختصة، ومن بعدها إلى لجنة الشؤون الاقتصادية، وأخيراً يوضع الملف أمام مندوبي وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي تمهيداً لصدور القرارات المناسبة".
فرنسا تريد تغيير الصيغة اللبنانية الحالية
وعن المؤتمر التأسيسي الذي حُكي عنه كثيراً، يشير نور الدين إلى أنه "منذ عام 2006، بدأت تطرح أفكار حول مؤتمر حوار أو تأسيسي. وتريد فرنسا فعلياً تغيير النظام والصيغة اللبنانية الحالية، لأنه بنظر الفرنسيين، لم يعُد هذا النظام يجدي نفعاً، ويجب تجديده وتطويره". ويتابع، "لبنان ليس جزيرة معزولة، بالتالي لا يمكن عزله عن محيطه وعمقه العربي، أي دول الخليج ودولة مصر تحديداً. لذا أي مؤتمر لتغيير الصيغة الحالية يجب أن يتم بتوافق ورعاية الدول الوازنة عربياً كالسعودية ومصر، إضافة إلى دولة الفاتيكان التي تتمتع بدور محوري وأساسي في الداخل اللبناني، وذلك بسبب التركيبة اللبنانية المعقدة". ويؤكد نور الدين أن فرنسا تعمل وتريد تغيير الصيغة أو العقد الحالي. وبرأي الفرنسيين، فإن المثالثة واللامركزية الإدارية الموسعة هما الحل لمشكلة النظام اللبناني، بعدما تأكد فشله.
الفراغ سيتمدد والقوى السياسية ستصعّد أكثر
الأكاديمي والباحث السياسي حسام مطر، اعتبر أيضاً أن "الانهيار الحالي سيتواصل في ظل غياب مبادرة قادرة على منح لبنان مساعدات أو قروض. وهذا الانهيار لن يبقى محصوراً في الجانب المالي والاقتصادي، بل سينعكس مزيداً من الترهّل في بنية الدولة اللبنانية ومؤسساتها وقدرتها على الإدارة وتسيير المرافق العامة. واجتماعياً، ستزداد حدة الانقسامات الطبقية والسياسية. وأمام هذه الوقائع، سيتمدد الفراغ مصحوباً بفوضى نسبية وهذا ما سيعزز من الاستقطاب السياسي الداخلي، ويدفع معظم القوى السياسية إلى التصعيد لتحسين موقعها التفاوضي وشحن مناصريها وفرض أجندتها على الآخرين، وكل ذلك بانتظار مبادرة خارجية جزئية من طرف ما أو مبادرة مرتبطة بتسوية في الإقليم".
المنظومة في حالة موت سريري بانتظار تسوية ما خارجية
وعن شكل الانهيار، يقول مطر، "ليس هناك شكل وحيد للانهيار، نحن في قلب مسار الانهيار الذي في نهايته تتفكك الدولة كلها في حال لم يتم ضبطه، وهي مرحلة لا يبدو أن لمعظم القوى في الداخل والخارج مصلحة فيها. ولكن حتى من دون وصول الانهيار إلى نهايته، أي لو أنه لم يلامس انفراط عقد الدولة، فستكون تداعياته كارثية. نحن اليوم في مرحلة الانهيار، إذ هناك شلل تام في المنظومة السياسية والمالية والطائفية بل وفي حالة موت سريري ومن الصعب جداً عودة هذه المنظومة إلى ما كانت عليه الأمور. هذه المنظومة مجبرة على تقديم تنازلات وإجراء تغييرات على شكل إصلاحات أو تعديلات تستبدل فيها بعض القواعد والممارسات والسياسات، وذلك وفق ميزان القوى المحلي والخارجي. أما الدولة، فهي اليوم دولة ضعيفة فاشلة تتجه نحو التفكك غير الرسمي إذا لم يجرِ احتواء الانهيار. إذاً من المستبعد الوصول إلى انهيار شامل الذي يعني انفراط كل المؤسسات وظهور الكانتونات وانهيار تام للعملة الوطنية بالتالي تفكك الدولة، ولكن المرجح أن نقيم لفترة من الزمن ضمن انهيار فيه دولة فاشلة ومفككة ويُصار إلى تعليق العملية السياسية، ولكن مع أجهزة تقوم بالحدّ الأدنى من مهماتها وتقدّم أشكال مختلفة من الدعم المحدود من الاحتياطي والمساعدات الخارجية، بانتظار تسوية ما في الخارج. وهذه المرحلة تعجّ بالمخاطر كونها تمثل بيئة هشة جداً تنذر بحصول تفلّت في الشارع أو صدامات أمنية.
ماذا ينتظر المجتمع الدولي كي يتدخل؟
يرى الباحث السياسي حسام مطر أن المجتمع الدولي منقسم حول لبنان ومنهمك في أزماته وأولوياته. وجزء أساسي من هذا المجتمع يبحث في كيفية توظيف الانهيار لإعادة إنتاج توازن سياسي جديد في لبنان على حساب "حزب الله" من ناحية، وأيضاً لكيفية الاستفادة من التأزم اللبناني لتحسين شروط التفاوض مع إيران من ناحية أخرى. والمجتمع الدولي ليس لوحده فاعلاً في المسألة اللبنانية، فأيضاً هناك وقائع محلية مؤثرة منها حدة الانهيار والإفلاس الحاصل وكلفة معالجته إلى حدة الانقسام السياسي بين النخبة المحلية وإلى عجز صيغة "اتفاق الطائف" عن إدارة الواقع المتغير وصولاً إلى قوة "حزب الله".
وبرأي مطر، فإن الخروج من الانهيار يستوجب تسوية خارجية كبيرة تعيد النظر في أجزاء من "اتفاق الطائف" (بما فيها جملة قوانين حول تقاسم السلطة والثروة لم يجرِ إقرارها كما كان مفترضاً) وربما تتجاوزه، وذلك مرتبط بمدى ما نكون قد وصلنا إليه من انهيار وحال موازين القوى. أما إدارة الانهيار، فممكنة من خلال تسويات جزئية وموضعية تكتفي بتقديم ضمانات سياسية محددة لإدارة الصراع الداخلي مع جرعات من الدعم المالي مقابل جرعة من الإصلاحات والتزام المسار الدستوري للعملية السياسية".