قد يكون الأميركي إدوارد هوبر "رساماً سيئاً" بالمعنى التقني للكلمة. فهو في نهاية الأمر لم يكن رمبراندت ولا بيلاسكويث ولا ديلاكروا. وطبعاً لم يكن بيكاسو... معاصره. لكنه كان مع هذا الرسام الأميركي الأكبر في القرن العشرين. وكان رسام أميركا وما تبقى من الحلم الأميركي. ورسام العجز عن التواصل بين بشر تحولوا إلى جزر منفصلة حتى ولو جمعتهم لوحة واحدة. لقد عرف هوبر على مدى سنوات طويلة كيف يرسم شيئين لم تكن أميركا لتتوقع أن يكونا من سماتها الأساسية: الفراغ والوحدة. ومع ذلك حين سئل هوبر عن هذا في حوار أجرته معه كاتارينا كوه في كتابها "صوت الفنان" الذي أصدرته عام 1962 في نيويورك، كان جوابه بسيطاً جداً وهو يتحدث عن تلك التي تحولت مع السنين لتعتبر أشهر لوحاته بل حتى أشهر لوحة أميركية في الأزمنة الحديثة، "صقور الليل": "يخيّل إليّ أن هذه اللوحة تمثل الطريقة التي أنظر بها إلى شارع ليلي. ولست أنظر إليها بشكل خاص كتعبير عن وحدة. كل ما في الأمر إنني بسّطت المشهد إلى حد كبير وجعلت المطعم أكبر من حجمه الحقيقي. وربما كنت، من دون وعي مني على الأرجح، أصور الوحدة في مدينة كبيرة".
الشاعرية أحياناً
في الحقيقة أن هوبر يبدو صادقاً في ما يقوله هنا. فالفنان، أي فنان، ليس مطالباً بأن يكون على وعي بجوهر ما يفعل. ولكن أن يقول هذا وبكل براءة فنان أمضى حياته كلها يرسم شخصيات وحيدة في فراغ المدينة وأحياناً حتى في فراغ الريف، أمر لا يبدو منطقياً. لكن فن إدوارد هوبر ينتمي إلى أكثر التيارات منطقية في واقعيته حتى ولو بدت أحياناً شاعرية. ومن هنا لم يكن غريباً أن يكتب شعراء كثر قصائد تُستوحى من لوحات هوبر، كما لم يكن غريباً أن يستوحي كثر من السينمائيين لوحاته وأجواءه في مشاهد حاسمة في أفلامهم. وحسبنا أن نذكر هنا عدداً من تلك الأفلام حتى نجدنا في قلب الدور الذي لعبه هوبر في حداثة القرن العشرين الفنية. فمن الإيطالي ميكائيل أنجلو أنطونيوني في ثلاثية الاستلاب ("المغامرة"، "الليل"، "الكسوف") إلى ردلي سكوت (في "بلاد رانر") مروراً بهتشكوك الكبير الذي جعل من بيت منعزل رسمه هوبر نموذجاً لبيت المجرم نورمان باتس في "بسايكو" ومن عالم هوبر موديلاً لبيت المصور في "نافذة خلفية"، ومن مدن هوبر الريفية تصوراً أولياً لمدينة "ظلّ شك"... ويمكن للأمثلة أن تطول وصولاً إلى مخرجين أكثر حداثة، حسبنا أن نذكر هؤلاء لنعبر عن دهشتنا مما يقوله هوبر في حديثه المذكور.
ذات عشية في زقاق
ولكن أكثر من هذا حسبنا أن نتوقف هنا عند لوحة "صقور الليل" بالتحديد باعتبارها الأجمل والأشهر، ولكن الأقسى، في إنتاج هوبر، لنطرح أسئلتنا على فن يبدو في ظاهره بديعاً واضحاً، لكنه في أعماقه يحمل من السمات والتساؤلات ما يبدو أنه يتجاوز حتى إدراك مبدعه. فهذه اللوحة التي يصل عرضها إلى أكثر من 144 سم وارتفاعها إلى ما يزيد قليلاً على 72 سم (والمعلقة اليوم في "شيكاغو إنستتيوت") رُسمت في عام 1942 لتصبح منذ ذلك الحين، ليس العمل المعبر عن فن إدوارد هوبر فقط، بل كذلك العمل الذي يخطر في البال ما إن يصار إلى الحديث عن الحلم الأميركي. ومن هنا يمكن للرسام أن يشرح ساعات أن كل ما في الأمر أن مشهداً ليلياً لمحه في أحد أزقة غرينتش فيليج استوقفه ذات لحظة فخلده في تلك اللوحة قبل أن يزال المطعم نفسه من مكانه، وحتى من دون أن يعرف شيئاً عن الشخصيات التي رسمها وهي مجرد أربع شخصيات صدف أن وجدت عند تلك العشية في المطعم الواقع عند تلاقي شارعين صدف أنهما كانا خاليين تماماً قد عتم الليل. في النهاية نحن هنا أمام مشهد عادي قد يمكن مصادفته في أية مدينة في العالم وفي أية ليلة من الليالي. فلماذا لا بد أن نحس من فورنا أننا هنا داخل أميركا العميقة، وليس بالمعنى الجغرافي للكلمة طبعاً بل بالمعنى المشهدي؟ بل حتى يمكننا أن نقول إن هذه اللوحة وبشكل غامض يمكن حسبانها الأكثر أميركية بين لوحات هوبر التي قد يراها البعض بصورة عامة، أوروبية أكثر منها أميركية.
السر في لحظة الإبداع
ربما كان الجواب يتعلق بالمنظور أكثر مما بمورفولوجيا المكان. بالمكان الذي اختار الرسام أن يرسم المشهد منطلقاً منه. وهو منظور معهود لديه على أية حال: من الخارج إلى الداخل. والداخل منظوراً إليه عبر واجهة زجاجية تمتد مستديرة في النهاية بعض الشيء ليبدو معها مشهد داخل المطعم وكأنه لقطة سينمائية صامتة حيث أن بقعة الضوء المهيمنة هنا هي تلك التي تضيء المطعم من داخله وإن كانت تنعكس بعض الشيء على خارجه بفعل ضوء خارجي أزرق رمادي يبدو وكأنه امتداد للظلام الذي يفترض به أن يخيم على الخارج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الصمت الفصيح
وفي مقابل هذا الشحوب المضاء في الخارج يبدو الضوء قوياً في الداخل معطياً الفرصة للرسام كي يرى شخصيات المشهد الأربع بكل وضوح بارزة في ليل المدينة الصناعي. غير أن انغمارها بالضوء لا يغير شيئاً من وحدة كل واحدة منها. وحتى لئن كان يبدو أن ثمة شيئاً من التبادل بين الزبون الذي يواجهنا والساقي الملتفت إليه بعض الشيء، فإن ذلك التبادل لا يبدو أنه يعني شيئاً على الإطلاق. هو من العادية بحيث أنه لا يثير حتى اهتمام السيدة التي حتى وإن كان يبدو أنها رفيقة الرجل الجالس إلى جانبها، فإنها ليست هنا لتتكلم ولا لتفعل أي شيء على الإطلاق باستثناء تأمل أصابعها بصورة لا مبالية. وكذلك لا يبدو أن التبادل يثير اهتمام الرجل الجالس ولا نراه إلا من الخلف. فهو الآخر يبدو غارقاً في صمت وهدوء وكأنه غير موجود في المكان. وكأننا في نهاية الأمر أمام لقطة سينمائية يركز قبلها كل من عناصرها للقيام بدوره حين يُعطى الضوء الأخضر حتى يفعل.
لحظة الانتظار
والحقيقة أن إشارتنا السينمائية هنا ليست إعتباطية. فكما أن السينمائيين، إضافة إلى الشعراء، كثيراً ما استلهموا عوالم هوبر، نعرف أنه هو الآخر استلهم السينما، لا سيما سينما الثلاثينيات والأربعينيات الهوليوودية في العثور على مواضيع للوحته. ونعرف حتى أنه رسم داخل صالات السينما مرات ومرات. ولكن دائماً كما حاله في لوحاته الأخرى، وحتى لو أبدع في تلوينه وتشكيل أجواء المكان الذي يرسمه، كما حاله مثلاً في "صقور الليل"، من منطلق التعبير عن الوحدة المطلقة لأشخاص لا يتوقف عن التساؤل عما يحزنهم ولماذا هم هنا كل بمفرده وكل على سجيته سواء كانوا داخل الصالات التي تعج بالحياة وبشكل مزدوج عادة، على الشاشة وبين المقاعد، أم في بهو فندق أو عربة قطار أو زاوية مطعم أو كجزء من مجموعة جالسة تصطلي دفء شمس عابرة.... فالأماكن التي يلتقط هوبر فيها شخصياته كثيرة ومتعددة، وغالباً ما تبدو بديعة التكوين تعرف ألوان هوبر كيف تعبر عنها. ولكن دائماً أيضاً ما تغرق فيها الشخصيات التي تشغلها وسط عزلة قد لا تكون خانقة ونهائية، لكنها حتى في ظرفيتها وكونها لحظات عابرة لا بد أن تصور إنسان الزمن المعاصر في عجزه عن لقائه مع البشر الآخرين حتى ولو كان جالساً على مبعدة سنتمترات من مكان جلوسهم، من دون أن يتنبه إلى ذلك الوجود أو أن يحوله إلى تلاق طبيعي بين أشخاص يبدون في نهاية الأمر وحتى في نظراتهم المبتعدة أشبه بروبوات تنتظر من يحركها. ولا شك أن إدوارد هوبر (1882–1967) عرف كيف يعبر عن لحظة الانتظار تلك، هو الذي وجد في فنه وسيلته الخاصة للإفلات من تلك الوحدة المعممة التي عرف كيف يصورها في ذروتها، وإن لم يدرك ذلك تماماً بحسب اعتقاده!