في مشهد يشبه جحافل النازحين عن موطنهم، سار آلاف الأرمن يوم السبت حاملين الزهور إلى النصب التذكاري لضحايا المذبحة الأرمنية، في صمت يختلط بمشاعر الخشوع والألم، ليحيوا ذكرى مليون ونصف المليون أرمني قتلوا على يد القوات العثمانية قبل أكثر من 100 عام.
ففي الـ 24 من أبريل (نيسان) من كل عام، يُحيي الأرمن ذكرى الإبادة الجماعية لمواطنيهم الذين قتلوا على أيدي الجنود الأتراك العثمانيين بين عامي 1915 و1923 أثناء الحرب العالمية الثانية في وقت انهيار الإمبراطورية العثمانية. وما بين القتل بالحرق أحياء ورمياً بالرصاص أو جوعاً وعطشاً في الصحراء بعد الفرار من المذابح، لم ينس الأرمن قط جرائم العثمانيين بحق أسلافهم، فالنصب التذكاري الدائري تتوسطه شعلة نار ترمز إلى بكاء وحداد متواصل منذ أكثر من 100 عام.
في الليلة السابقة للرابع والعشرين من أبريل، سار الشعب الأرمني في مسيرة انطلقت من وسط العاصمة يريفان سيراً على الأقدام أكثر من أربعة كيلومترات إلى مجمع النصب التذكاري للإبادة الجماعية (تسيتسيرناكابيرد) الذي يضم متحفاً يوثق جرائم العثمانيين، ومركز دراسات ونصباً لذكرى الضحايا.
شهد المجمع وفوداً حاشدة من مسؤولي دول وهيئات دولية ممن جاؤوا إلى أرمينيا للتضامن مع الشعب الأرمني ومشاركتهم تلك الذكرى الأليمة، بينهم وفد فرنسي برئاسة رئيس مجلس الشيوخ جيرار لارشيه ووزيرة الشباب اللبنانية فارتينيه أوهانيان، ووزير الدفاع القبرصي شارلامبوس بتريدس.
كما حضر من مصر الوكيل الأسبق لجهاز المخابرات العامة حاتم باشات ممثلاً عن البرلمان الأفريقي، وشارك السفير المصري في يريفان بهاء الدسوقي في الذكرى، ورئيسة منظمة برلمان أميركا الوسطي كارولينا فرنانديز.
ماض يتردد صداه
في كلمة امتلأت بالعبارات القوية ومشاعر التضامن، قال لارشيه من أمام نصب تسيتسرناكابيرد، "لست أرمنياً، ولست من أصل أرمني، لكن قلبي ينبض اليوم مثل قلب الأرمني. هناك أماكن قليلة في العالم مثل هذا النصب التذكاري. أنت تدخل هنا مليئاً بالإثارة، مدركاً ما حدث، وتغادر وقد تغيرت. هنا الماضي يتردد صداه في الحاضر. يعلمنا النصب التذكاري أن الأعمال العدائية، حتى لو نجحت لا تحقق النصر".
وأشار رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي إلى الحرب الأخيرة على الأرمن في إقليم ناغورنو قرة باغ من قبل أذربيجان بدعم تركيا، قائلاً، "دعوا الهجوم الأخير على الأرمن، الذي صاحبته الكراهية والعنف والفظائع وتدنيس وتدمير الأضرحة، يجد إجابته هنا". وأشار إلى إحياء فرنسا ذكرى ضحايا عمليات الترحيل النازية صباح غد الأحد، قائلاً، "معاً يجب أن نتذكر الكرامة الإنسانية والقيم الديمقراطية". وخلص بالقول "تعيش جمهورية أرمينيا".
اعتراف الولايات المتحدة
وخلال مؤتمر صحافي، قال لارشيه إن زيارته لأرمينيا هذا العام على وجه الخصوص، حيث الدولة في حاجة ماسة إلى إعادة تأكيد صداقة فرنسا ودعمها، لها أهمية خاصة. مضيفاً "فرنسا لا تنسى. إنها تعرف كل ما تدين به لمواطنيها الذين تعود جذورهم إلى أرض أرمينيا". وأعرب عن آماله أن يتخذ الرئيس الأميركي جو بايدن قراراً بالاعتراف بالإبادة الجماعية للأرمن.
وتابع لارشيه، "مرت 20 سنة منذ اليوم الذي أصدر فيه الرئيس جاك شيراك (الرئيس الفرنسي الأسبق) قانوناً يتكون من 8 كلمات فقط، مادة واحدة تعترف بموجبها فرنسا رسمياً بالإبادة الجماعية للأرمن.
واعترف الرئيس الأميركي جو بايدن بالإبادة بحق الأرمن، ليكون أول رئيس للولايات المتحدة يصف مقتل 1.5 مليون أرميني على يد السلطنة العثمانية عام 1915 بأنه "إبادة".
وكتب بايدن، في بيان، "الأميركيون يكرّمون جميع الأرمن الذين لقوا حتفهم في الإبادة قبل 106 أعوام من اليوم". وأضاف، "نحن نؤكد التاريخ. لا نفعل ذلك لإلقاء اللوم على أحد وإنما لضمان عدم تكرار ما حدث".
وقالت مسؤولة أميركية رفضت الكشف عن اسمها، إن الإعلان يشكل "تكريماً للضحايا، وليس لإلقاء اللوم على أحد".
وكان الرئيس الديمقراطي الذي وعد خلال حملته الانتخابية بالتحرك بشأن هذه المسألة، أبلغ نظيره التركي الجمعة بقراره خلال محادثة هاتفية. وأعرب عن رغبته في "علاقة ثنائية بناءة مع توسيع مجالات التعاون والإدارة الفعالة للخلافات".
الاحتجاج التركي
من جانبه قال المتحدث الرئاسي التركي اليوم الأحد إن إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن أن مذابح الأرمن في الإمبراطورية العثمانية تشكل إبادة جماعية هو "ببساطة أمر مشين" وإن تركيا سترد بطرق مختلفة خلال الأشهر المقبلة.
وأشار إبراهيم كالين، المتحدث باسم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ومستشاره، في مقابلة مع رويترز "سيكون هناك رد فعل بأشكال وأنواع ودرجات مختلفة في الأيام والأشهر المقبلة".
كما ندد مسؤولون أتراك ببيان بايدن أمس، وقال كالين إن أردوغان سيتطرق إلى هذه القضية بعد اجتماع لمجلس الوزراء غدا الاثنين. وقال "في الوقت والمكان اللذين نعتبرهما مناسبين، سنواصل الرد على هذا البيان المؤسف غير العادل".
وكانت وزارة الخارجية التركية قد أعلنت في وقت سابق إنها استدعت السفير الأميركي لدى أنقرة بشأن اعتراف جو بايدن بأن مذابح الأرمن في عام 1915 خلال حقبة الإمبراطورية العثمانية تمثل إبادة جماعية. وأضافت الوزارة أنها نقلت للسفير "رد فعل قويا" من جانب تركيا.
وتقبل تركيا حقيقة أن العديد من الأرمن الذين عاشوا في الإمبراطورية العثمانية قُتلوا في اشتباكات مع القوات العثمانية في الحرب العالمية الأولى، لكنها تنفي أن عمليات القتل كانت مدبرة بشكل منهجي وتشكل إبادة جماعية.
لبنان والأرمن
كما ألقت وزيرة الرياضة اللبنانية كلمة أمام النصب ممثلة عن الرئيس اللبناني ميشال عون، قائلة "إن شهداء مجازر الإبادة الأرمينية باقون في ضمائرنا وأحياء في حياتنا الحاضرة وفي مستقبلنا. هم يعلنون أن الله إله السلام يُدعى وليس إله الطغيان والاستعمار والعنف. معهم، نحن نرفض الاستسلام لحكم الموت. استشهدوا، فبقوا ناطقين بالروح. وها هم بعد أكثر من قرن، يجددون وجه الأرض".
وأشارت أوهانيان إلى قواسم مشتركة بين الشعبين اللبناني والأرمني تتمثل على الأكثر "في العذاب والتضحية والمعاناة. أنتم ذُبحتم بالسكين، ونحن ذُبحنا بالجوع والحصار، والفاعل واحد. على هذا الدرب، معاً، نحن نرفض، باسم الإنسانية التدجيل والتدمير وإخفاء الحقيقة".
وتعترف أكثر من 30 دولة حول العالم بالإبادة الجماعية، التي وقعت على المواطنين الأرمن والسريان واليونانيين بيد القوات العثمانية قبل أكثر من 100 عام، كما تعترف بها المنظمات والهيئات الدولية بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، ومع ذلك هناك دولتان عربيتان فقط تعترفان رسمياً بهذه الجرائم، وتدرّسها ضمن كتب التاريخ المدرسية، وهما لبنان الذي أقر المذابح في عام 1996، وسوريا التي اعتمدتها رسمياً في فبراير (شباط) الماضي.
وخلال قمة ميونيخ للأمن في فبراير 2019، تحدث الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في خطابه عن "المجازر" التي وقعت ضد الأرمن ولجوئهم إلى مصر، حيث عاشوا بين المصريين كمواطنين، لكن القاهرة لم تعترف رسمياً بالإبادة. واعتبرت اللجنة الوطنية الأرمينية في مصر وقتها حديث السيسي بأنه "خطوة أولى" نحو الاعتراف الرسمي بما وقع قبل أكثر من 100 عام.
ودعا عضو البرلمان الأفريقي حاتم باشات، المجتمع الدولي لانتهاز الفرصة لخلق رأي عام دولي قوي ينصف هذه القضية، ويضع لها نهاية ترد اعتبار الشعب الأرمني، الذي عانى عشرات السنوات ويلات ذكرى الحرب القاسية في حقه وحق البشرية والإنسانية.
الخطر باق
وقال مدير متحف الإبادة الجماعية للأرمن هاروتيون ماروتيان، في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إنه وفقاً للوثائق التاريخية فإن كثيرين من عائلات الأرمن "حُرقوا أحياء داخل منازلهم من قِبل القوات العثمانية، وهذا هو الفرق بين الهولوكوست والإبادة الجماعية، حيث جرى حرق اليهود بعد قتلهم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال مقابلة مع ماروتيان، روى قصصاً مروعة وثقها عديد من المؤرخين حول الجرائم التي ارتكبها العثمانيون ضد الأرمن، ليس أقلها إعدام 260 باحثاً وفناناً وطبيباً أرمنياً في الـ 24 من أبريل 1915، كما أرسلوا 120 ألف جندي أرمني إلى الخطوط الأمامية في الجيش وجردوهم من أسلحتهم وأعدموهم، وجرى قتل المفكرين أو ما يشيرون إليه بـ (الرأس الأرمني).
وتعترف تركيا بمقتل عديد من الأرمن على يد القوات العثمانية، لكنها تشكك في ما إذا كانت عمليات القتل مُتعمدة، وتقول إن الأعداد كانت أقل بكثير من مليون.
ويطالب الأرمن بالاعتراف الدولي بالإبادة الجماعية حتى لا تحدث المذبحة مجدداً، خصوصاً بالنظر إلى طموحات تركيا التوسعية في المنطقة، وقال ماروتيان "لم تنته بعد، نشعر بنفس الخطر اليوم". والعام الماضي، عانى سكان إقليم ناغورنو قرة باغ، الذي تقطنه عرقية الأرمن، القتل والتهجير على أيدي القوات الأذربيجانية التي حظيت بدعم تركيا، في حرب انتهت بسيطرة أذربيجان على مدن رئيسة في الإقليم الحدودي.