في عام 2018، حين كان يقضي حكمه بالسجن المؤبد جزاء ثلاث جرائم قتل اقترفها في أعوام الثمانينيات، بدأ صموئيل ليتل بالكلام، وهو كان بلغ من عمره آنذاك 77 عاماً، وكانت صحته متدهورة. وعلى مدى مئات الساعات، اعترف ليتل بما مجموعه 93 جريمة قتل. 50 اعترافاً على الأقل من تلك الاعترافات جرى التحقق منها بحسب القانون، كما اعتبرت جميعها من قبل الشرطة الفيدرالية FBI اعترافات يعتد بها وذات صدقية. لذا يمكن القول، بكلام آخر، إن ليتل، الملاكم السابق من ولاية جورجيا، استطاع الإفلات بجرائمه وإخفائها طوال عقود، إلى أن قرر الاعتراف.
وقد راحت جرائم صموئيل ليتل المروعة تحتل عناوين الأخبار. وجاءت اعترافاته لتجعل منه، بحسب التوصيف المشؤوم، القاتل المتسلسل "الأكثر غزارة" (أو فتكاً) في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. لكن، وعلى الرغم من كثرة جرائمه تلك، فإن اسم ليتل سرعان ما تراجع من الأخبار. إذ كان ثمة موجة مختلفة من العناوين المتصدرة حين توفي سنة 2020. إلا أن مستوى التغطية التي خصصت لمسألة ليتل تبقى ضئيلة إذا ما قورنت بعدد الضحايا الذين أزهق أرواحهم.
ويأتي اليوم فيلم وثائقي جديد (مؤلف من عدة أجزاء) محاولاً تصحيح ذاك الخطأ. فيمثل "مواجهة قاتل متسلسل" Confronting a Serial Killer، الذي يعرض على شبكة "ستارز" Starz ابتداء من 18 أبريل (نيسان)، رحلة استكشاف من خمسة أجزاء في جرائم صموئيل ليتل، ويعري نظام العدالة الجنائية الذي فشل في وضعه عند حده. ويقف خلف الكاميرا (في هذا العمل) المخرج دو برلينغر الذي سبق وقدم أعمالاً مهمة تناولت جرائم حقيقية، مثل ثلاثية "الفردوس الضائع" Paradise Lost، التي تناولت "الثلاثة من غرب ممفيس" West Memphis Three، والفيلم الوثائقي "أحاديث مع قاتل: أشرطة تيد بوندي" Conversations with a Killer: The Ted Bundy Tapes سنة 2019، وسيرة بوندي بحسب زاك إيفرون تحت عنوان "منتهى السوء، وذروة الشر والسفالة" Extremely Wicked, Shockingly Evil and Vile. كذلك فإن بو كوتشينس، التي تتضمن إنجازاتها السابقة مسلسل "جريمة قتل لاسي بيترسون" (2017) The Murder of Laci Peterson الذي تناول جريمة حقيقية، هي الآن واحدة من المنتجين التنفيذيين لـ"مواجهة قاتل متسلسل".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويدرك كل من برلينغر وكوتشينس تمام الإدراك الرواج الذي حققته وثائقيات الجرائم الحقيقية، وهما كانا أسهما في تحقيق ذاك الرواج. بيد أن قضية صموئيل ليتل تملك ما تضيفه إلى هذا النمط المتكاثر من الأفلام. وعن ذلك يقول برلينغر "في أفلام الجرائم الحقيقية هناك مسؤولية تقع على عاتق (المخرج)". يتابع "إن كنت تود تناول قصة يحتمل أن يكون لها جوانب حساسة ودقيقة، فإن ثمة مسؤولية تقع على عاتقك تجاه الضحايا، فينبغي عليك إذاك التأكد من أن هناك مسوغاً لسرد تلك القصة".
وبالنسبة لـ"مواجهة قاتل متسلسل"، فهو يأتي مستنداً إلى تجربة جوليان لورين، الصحافية والكاتبة التي نشأت بينها وبين ليتل علاقة ابتداء من سنة 2018، وقد انتهى بها الأمر شاهدة على اعترافاته المتشعبة. ومثل ذاك لبرلينغر الضرورة القاهرة التي احتاجها للإنطلاق في المشروع. وعن هذا قال "عندما قرأت عن تمكن هذه المرأة القوية من حمل ذاك القاتل المتسلسل غير النادم، والذي كان أنكر جميع جرائمه، على الكلام، وأن تلك الخيوط التي وردت في كلامه قادت إلى تحديد الضحايا، فإن الأمر تملكني".
وكانت جوليان لورين في سنة 2018، نشرت بعض ما خبِرته في التحقيق بجرائم صموئيل ليتل ضمن مقالة في مجلة "ذا كات" The Cut، وقد باتت هذه المقالة اليوم توطئة لفيلم "مواجهة قاتل متسلسل". وفي مقالتها أشارت لورين إلى التحري ميتزي روبيرتس من لوس أنجليس (الذي يظهر أيضاً في الفيلم)، والذي كان أول من ساعد في بناء قضية صموئيل ليتل. وكتبت لورين أن روبيرتس افترض تمكن ليتل من إخفاء عشرات الجرائم لأنه اعتمد قتل "الأقل حظوة" (أو "الموتى الصامتين"، الذين يكون موتهم قليل الأثر) والذين تصفهم لورين بأنهم "أشخاص يعيشون في هوامش المجتمع ولم يحظ موتهم تاريخياً بتحقيق يوازي ما يحظى به موت المواطنين الأغنى و"الأكثر بياضاً"، أو ربما الأكثر وعياً وصحة". أو وفق ما تقول لورين في الفيلم "إلى حد كبير طلاب الجامعات "البيض" هم "الموتى الصاخبون" [قتلهم يثير جلبة]. والسود (تحديداً عاملات الجنس) هم "الموتى الصامتون".
وبحسب الشرطة الفيدرالية الأميركية FBI اعترف ليتل بـ93 جريمة، نفذها، وفق ما قال، بين عامي 1970 و2005. وإذا افترضنا أن رقم 93 يمثل العدد الفعلي للضحايا، فسيكون قد قتل ما معدله اثنين إلى ثلاثة أشخاص في السنة على مدى 35 عاماً. وخلال ذلك الوقت، وقبل إدانته سنة 2012، خاض ليتل عدداً من المواجهات مع القانون. حتى أنه حوكم سنة 1982 في جريمة قتل باتريسيا آن ماونت، ابنة الـ26 سنة التي تعاني من مشكلات عقلية، بيد أنه بُرئ سنة 1984 لعدم كفاية الدليل في القضية.
وهكذا، تخبرنا القصة أن ليتل بقي حراً طليقاً وتابع جرائمه. وضحاياه، كما أشارت السلطات، ووفق ما يبين الفيلم الوثائقي، كانوا في الدرجة الأولى نساء من خلفيات عرقية ملونة، وكان بعضهن يشتغل في تجارة الجنس أو له تاريخ في الإدمان (على المخدرات). وهو (ليتل) "راهن على ذلك"، بحسب قول كوتشينس، التي أوضحت "راهن صموئيل ليتل على هذا الإجحاف [السائد في المجتمع في حقهن] كي يحميه، وقد نجح".
وعلى مدى زمن الفيلم ("مواجهة قاتل متسلسل") يسرد صموئيل ليتل جرائمه خلال مكالمات هاتفية مع جوليان لورين. والشرائط التي تحوي تلك المكالمات (المسجلة) "مرعبة ومروعة"، وفق وصف برلينغ. وفي العادة يسعى بعض القتلة المتسلسلين إلى اللف والدوران حول التفاصيل حين تناقش الجرائم التي اقترفوها، إذ إنهم يميلون إلى إعادة صياغة الأحداث ويتمنعون في سرد التفاصيل. وليتل لا ينطبق عليه هذا التصنيف. لكن يبقى هناك عتبة واحدة ثابر على رفض تجاوزها. "لا تصفه بالمغتصب"، قال مرة روبيرتس واصفاً إياه (ليتل) لمحقق من وحدة "تكساس راينجرز" Texas Rangers (وحدة متخصصة في الجرائم الجنائية بولاية تكساس) كان يزمع على محادثته. "فإنه حساس تجاه هذا الأمر أكثر من حساسيته تجاه اعتباره قاتلاً". كل ما عدا ذلك يمكن التداول فيه معه.
وعن إحدى الضحايا يروي ليتل لجوليان لورين قائلاً "التقطها وقبضت بيديّ على عنقها، وضغطت حتى شُلت". وحين سألته لورين إن كان تعمد قتل تلك المرأة، قال ليتل من دون أي تحفظ "أردت قتلها. أردت ذلك لأنه أشعرني بالراحة".
ويشير برلينغر إلى أن استخدام تسجيلات ليتل (في الفيلم) جاء نتيجة "قرار مدروس". يضيف المخرج قائلاً "ثمة اليوم ردود فعل عشوائية مبالغ بها تجاه أفلام الجرائم الحقيقية. أعتقد أن هناك فئة محددة من الناس تعتبر أن كل أفلام الجرائم الحقيقية هي أفلام سيئة واستغلالية". يضيف "أنا أفهم ما وراء هذا الموقف في جزء منه، وأعتقد أن هناك عدداً هائلاً من هذه الأفلام يتسم بعدم المسؤولية. لذا أعتقد أنه في كل مرة يقوم المرء برواية قصة يمكن مشاهدتها من زاوية مثيرة، عليه أن ينتبه لتلك القصة وأثرها على الجمهور".
أما بالنسبة لكوتشينس، فلا يستخف بقيمة الاستماع إلى ليتل وهو يصف النساء اللاتي استهدفهن، وكيف ولماذا فعل ذلك. وتقول كوتشينس في هذا الصدد "عقلانيته التامة معبرة على نحو مدهش، وهي مُهمة لأنها تعكس المجتمع ومظاهر الإجحاف التي راهن عليها للاستمرار بجرائمه وإخفائها". من هنا، فإن النتيجة تأتي مقنعة، وتتمثل في فيلم معمق، يتميز بأسلوب مباشر لا يساوم، بعيداً عن التلصص [والتمتع بآلام الآخرين].
وفي قلب هذا الفيلم، المؤلف من عدة أجزاء، تكمن العلاقة التي بنتها جوليان لورين مع ليتل، والتي تظهر في زياراتها إلى السجن، مرة، وباتصالاتها الهاتفية، مرة أخرى. وعن علاقتها به تذكر لورين "تطرحين سؤالاً، ثم تستمعين بانتباه شديد، وإن أحسنتي الإصغاء، يمكنك أن تستمعين إلى ما يريدون قوله". وفي إحدى المرات (خلال أحاديثهما)، حين يخشى ليتل من أن تؤدي مروياته إلى جعل لورين "تحتقره"، تقوم الأخيرة على الفور بإيضاح الموقف: "لا سيد سام (صموئيل)، أنت تعرف أنني لا أحكم عليك. أنا هنا فقط كي أستمع".
وتسير العلاقة بينهما. ولا يُقتصر إفصاح ليتل على أنه يحب لورين "مثل أخت أو أم أو شيء آخر"، بل يمضي في إفصاحه لها عن جرائمه وماضيه وأساليبه. وتقول لورين عن ذلك "كل تفاعل قام به (تجاهها) جاء نتيجة تعاملي معه".
وطبعاً هذا الأمر يسير في الاتجاهين: إذ إن لورين لا شأن لها في الصفح عن ليتل والتخفيف من جسامة جرائمه، بل على العكس من ذلك، فهي تحقق في تلك الجرائم أملاً في تحديد بعض ضحاياه. لذا فإنها لا تقوم إلا بإسماعه ما يحتاج إلى سماعه، بغية حمله على الكلام. من هنا فإن علاقتها به تجسد الفارق ما بين العطف والمواساة: إذ إنه من الممكن، لا بل من الضروري حتى، محاولة فهم السبب الذي جعل شخصاً من الأشخاص يقترف ما اقترفه، والوصول إلى معرفة كيفية قيامه بما قام به، وذلك من دون أن نسامحه أو نُحبه في المقابل.
وفي هذا الإطار، فإن أكثر من 40 اعترافاً أدلى بها ليتل تبقى بحاجة لتأكيد من قبل الأطراف القانونية النافذة، كما يبقى معظم ضحاياه ينتظرون تحديد هوياتهم. توفي ليتل في ديسمبر (كانون الأول) 2020 عن عمر ناهز 80 عاماً. وعبر نشر قصص جرائمه وحسب، يمكننا اليوم أن نأمل كشف أسماء من قتلهم. وفقط من خلال سرد قصته يمكننا انتظار الحصول على أجوبة.
تبدأ عروض "مواجهة قاتل متسلسل" Confronting a Serial Killer في 18 أبريل على "ستارزبلاي" StarzPlay (عبر أمازون برايم Amazon Prime).
© The Independent