كان الشاعر أنسي الحاج أول من كتب عن الشاعر الفرنسي أنطونان آرتو في العالم العربي وترجم مختارات من شعره نشرها في مجلة "شعر" اللبنانية عام 1960 (العدد 16) غداة صدور ديوانه الأول "لن" في العام نفسه. وكان البحث الذي أرفقه بالقصائد المترجمة، على رغم مرجعيته النقدية، أشبه ببيان شعري، ذاتي في نبرته العنيفة وتوتره، حتى أن الحاج قال علناً في نصه "آرتو يربض علي". وجد أنسي الحاج الشاب في آرتو حينذاك مرآة أبصر فيها ذاته المضطربة والمسكونة بهاجس الموت، متجسداً في مرض السرطان الذي فتك بأمه. وهو الهاجس نفسه الذي احتدم في قصائد "لن" وحتى في مقدمته الشهيرة. حتى القصائد التي ترجمها لآرتو بدت كأنها طالعة من لغة "لن" المتشنجة والغاضبة غضباً وجودياً وميتافيزيقياً. وقد تستحق العلاقة بين أنسي الحاج وآرتو التي وسمت مطلع مساره ثم توارت لاحقاً، مقالاً على حدة. هذا عن آرتو الشاعر، أما آرتو المسرحي فعرف عربياً أكثر ما عرف، في كتابه "المسرح وقرينه" الذي ترجم في القاهرة في السبعينيات وهو يحتاج إلى إعادة ترجمة حتماً. وقد ترك أثراً في مسرحيين عرب اشتغلوا على مقولة "مسرح القسوة" التي أطلقها آرتو. ويجب القول أيضاً أن مسرحية آرتو "لي تشنيشي" ترجمت إلى العربية في سلسلة المسرح العربي (الكويت)، ناهيك عن قصائد قليلة لآرتو ترجمت ونشرت في الصحافة أو الإنتولوجيات.
لعل ما يستدعي الكلام عن حضور آرتو عربياً، وخصوصاً ترجمة أنسي الحاج الأولى لمختارات من شعره وتقديمه، هو صدور ترجمة الشاعر عيسى مخلوف لنص آرتو الفريد "فان غوغ منتحر المجتمع" (دار الرافدين، بغداد - بيروت) والذي كان الحاج ترجم منه مقاطع أيضاً. يقدم مخلوف نص آرتو كاملاً، هذا النص الصعب والصادم والإشكالي الذي لا يخلو من العنف الداخلي الذي تجلى في معظم أعمال آرتو. وقد تكون ترجمة عيسى مخلوف هذه، مدخلاً ضرورياً لاسترجاع شاعر في حجم آرتو، وفي غرابة التجربة العنيفة التي خاضها، ضد الوجود وضد اللغة وضد مجتمع التسلط والرعب الذي سجن الأصحاء في المصحات العقلية ناعتاً إياهم بالجنون.
النص العاصفة
يقدم مخلوف الشاعر والكتاب مستخلصاً أبرز سمات العلاقة التي ربطت الشاعر بالرسام، وأبرز ملامح النص الذي يصفه بـ"العاصفة التي تتحفز في صفحات كتاب"، مفسحاً المجال أمام القراء لمواجهة النص والتصادم معه. وقد بذل جهداً كبيراً في ترجمته بأمانة ودقة، على رغم وعورته، وتخبطه المجازي وتبعثر بنيته وتفككه. ويلحظ مخلوف في مقدمته أن "لم يكن من السهل مقاربة لغة آرتو الهاذية الجامحة المكهربة"، لكنه لم يسع "إلى ترويضها" كما يفعل عادة بعض المترجمين عندما يواجهون نصاً صعباً، وهنا تقع مهمة الترجمة الحقيقية، في الحفاظ على طباع اللغة الأصل وعدم دمغها بطابع لغة المترجم. ويعترف مخلوف أنه ذهب في محاذاة لغة آرتو ومحاذاة إيقاعاتها المتعددة، وحافظ على بنية النص، في تكراراته المتعمدة وترداداته ولعبة الوصل فيه، مدخلاً بعض التغييرات الطفيفة التي يقتضيها فعل النقل من لغة إلى أخرى. وما ساعد مخلوف في إنجاح هذه الترجمة إطلاعه على عالم فان غوغ ورسائله ونزعاته الأدبية والنفسية.
وعودةً إلى عنوان الكتاب الذي اختاره آرتو لنصه، والذي قد يطرح سؤالاً حول ملاءمته لانتحار فان غوغ، ينقل مخلوف قول آرتو الذي يرسخ اختياره هذا العنوان وفيه يعلن آرتو: "انتحرنا أخيراً، لأننا كلنا معاً، كفان غوغ المسكين نفسه، منتحرو المجتمع". فهل كان فان غوغ منتحر مجتمع، كما فهم آرتو هذا المسطح؟ هل يوافق حقاً المجتمع الذي دفع آرتو إلى الانتحار مجتمع فان غوغ؟ هل كان فان غوغ مريض المجتمع نفسه الذي سبّب مرض آرتو، وهو المجتمع الذي يتهمه آرتو بالمريض، كما يرد في مقدمة مخلوف، "المجتمع الذي خنق في مصحاته أولئك الذين أراد التخلص منهم جميعاً أو الدفاع عن نفسه أمام اتهاماتهم، لأنهم رفضوا أن يكونوا متواطئين مثله مع أبشع القذارات".
من المعروف أن آرتو كتب نصه هذا بعد زيارته معرض فان غوغ في متحف "أورانجري" في باريس في الثاني من فبراير (شباط) 1947 برفقة صديقته مارت روبيرت. جال آرتو على لوحات المعرض بسرعة فائقة، حتى أن صديقته كتبت تقول: "ظننت أنه لم ير شيئاً، فهو كان يمشي بسرعة حالت دون تمكني من اللحاق به. لكنه في الواقع صوّر كل الأعمال المعروضة بعينيه وحفظها في ذاكرته". وخلال بضعة أيام كتب هذا النص الذي صدر مطبوعاً في ديسمبر (كانون الأول) قبل أشهر من رحيله. وبدا هذا النص في أحد وجوهه رداً قاسياً على مقال كتبه عن فان غوغ طبيب نفساني شهير قال فيه إن هذا "الفنان النابغة كان يعاني اضطرابات نفسية ازدادت حدة مع مرور الوقت". هذا الوصف قد يبدو حقيقياً وطبيعياً وقد ينطبق على فان غوغ من غير حرج. وقد تصدى لحالة فان غوغ أكثر من 150 طبيباً ومحللاً نفسانياً، انطلاقاً من لوحاته ورسائله وسيرته، واختلفوا في تعيين حالته النفسية، فهل هي ناجمة عن اكتئاب حاد أم عن شيزوفرينيا أم داء صرع أم متلازمة ثنائية القطب (بيبولير)...؟.
ضحية الطب النفساني
أما آرتو فخيل إليه أن فان غوغ قرين له وصنو لشخصه في ألمه وعذابه وفي كونه ضحية الطب النفساني وضحية مجتمع لم يقدّر إبداعه. وجد آرتو الغريق نوعاً من خشبة إنقاذ في فان غوغ، ورأى نفسه فيه وفي كتابته عنه إنما كتب عن نفسه، حتى لكان بإمكانه أن يقول "أنا فان غوغ". لقد أصبح كلاهما واحداً في نظر الكاتب. بل أصبحا شخصاً واحداً مزدوجاً هو آرتو وفان غوغ. أما عيسى مخلوف فيستخدم فكرة التمرأي قائلاً: "بدا وهو يكتب عن فان غوغ أنه ينظر إلى وجهه في المرآة ويكتب عن نفسه. بالسكين كتب وبالصراخ الذي نسمعه في كل كلمة".
واصل آرتو من خلال فان غوغ، خوض حربه ضد الطب النفساني وضد المصحات التي أسر فيها تسع سنوات، وضد الصدمات الكهربائية التي أنهكت جسده وروحه. واتهم العالم بأنه اخترع الطب النفساني ليدافع عن نفسه ضد مغامرات العقول الجريئة التي تتحدى مسلماته وتشك في كل ما يؤمن به ويقدسه. يقول آرتو في نصه: "لا، فان غوغ لم يكن مجنوناً، لكن أعماله الفنية كانت تجسيداً لنيران يونانية وقنابل ذرية قادرة من زاوية رؤيتها، أن تضايق الأعراف البورجوازية... وتهاجم المؤسسات نفسها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قد لا يتحمل فان غوغ كل هذا العنف الذي أسبغه عليه آرتو، فمعروف أن فان غوغ كان على صداقة قوية مع طبيبه الشهير بول غاشيه الذي ظل إلى جانبه في سرير احتضاره، بعدما اخترقت الرصاصة بطنه. ولا تزال قصة الرصاصة تطرح مزيداً من التكهنات: هل أطلق فان غوغ هو نفسه الرصاصة على نفسه في الحقل أم أن فتية كانوا يعبرون الحقل أطلقوا عليه النار خطأ؟ لكن انتحار فان غوغ أصبح هو الوقيعة الراسخة، خصوصاً أنه أقدم سابقاً على حرق يده ثم على قطع أذنه ليجذب اهتمام إحدى الغانيات. أما أيام العلاج فقضاها فان غوغ في ما يشبه المستشفيات بعيداً من قسوة الأسر وقساوة الطب النفساني. وتحدث مرة في رسالة إلى شقيقه ثيو عن الحنوّ الذي يجده في طبيبه غاشيه والذي يحتاجه كثيراً. أما آرتو الذي حلم كثيراً بقتل طبيبه النفساني في المصح، فيصف طبيب فان غوغ الدكتور غاشيه بقسوة قائلاً: "الدكتور غاشيه كان هذا الحارس الشرس الغريب، هذا الحارس الشرس القيحي المتقيح، قبالة فان غوغ المسكين، لينزع منه أفكاره السليمة كلها". غير أن الرسائل المتبادلة بين الرسام وشقيقه تعطي انطباعاً مختلفاً تماماً عن غاشيه الذي ساعدهما كليهما، ورسم بورتريهاً جميلاً ومؤثراً لفان غوغ في لحظات احتضاره. وقد أخطأ آرتو في ظنه أن فان غوغ انتحر في غرفته بينما انتحر في الحقل، وهذا ما صححه مخلوف في أحد الهوامش.
يجمع النقاد الفرنسيون أن نص آرتو عن فان غوغ هو نص ذاتي بامتياز ولا يمكن أن يشكل مرجعاً في حقل دراسة فن فان غوغ، مع أن آرتو يحلل فيه أحياناً ويتوقف عند لوحات عدة معتمداً حدسه وخلفيته الثقافية ويقارن بين فان غوغ وغوغان. وبالفعل من يقرأ النص الذي كتب قبل 74 عاماً يجده نصاً "هجيناً" في المعنى الإيجابي للهجانة، فهو يمكن أن يقرأ كنص شعري متعدد الإيقاعات والأشكال ومتراوح بين قصيدة النثر والشعر الحر. وقد وصفه أحد النقاد بـ"الأوراتيرو" أي الموشح الديني. ويمكن أن يقرأ أيضاً كنص بيوغرافي نظراً إلى طغيان النفس الذاتي عليه، ويمكن أن يقراً كنص تحليلي حر، يضم مقاربات شخصية في وصفها وحتى في تحليلها الشكلي أو المضموني. نص يظل جديداً ولو مر عليه الزمن أو تخطاه مفهوم "الأثر المفتوح"، بل مهما ازداد طابعه الغامض والمغلق. نص آرتوي أولاً وآخراً، بعنفه المقدس ورفضه المطلق وناره المضرمة في اللغة وما وراءها.