ليس عجباً أن يتغنى الشعراء بنهر الفرات لعذوبته وغزارة تدفقه، إلا أن واقع حاله اليوم يرثى له، ولا يبشر بخير على الإطلاق، أمام مشاهد الجفاف الصادمة لنهر يخترق الأراضي السورية، قبل أن يصب في الأراضي العراقية، آتياً من تركيا.
المناداة بفكّ احتباس النهر
تتساقط محطات ضخ المياه وتوليد الطاقة على مجراه، معلنة خروجها عن الخدمة واحدة تلو الأخرى، بينما ترجّح مصادر ذات اطلاع مأساة وشيكة لا ريب من حصولها عقب اشتداد فصل الصيف.
يأتي ذلك وسط نداءات أهلية من مزارعين بالتحرك الدولي لفكّ احتباس نهر الفرات، وألقت كل من الإدارة الذاتية الكردية شمال شرقي سوريا ودمشق باللائمة لنضوب "فراتهم" على عاتق الجانب التركي واستمرار انخفاض منسوبه منذ أشهر، ومردّ ذلك عوامل ضغط سياسية أسلوبها المياه بحسب مراقبين.
من جانبه، أعلن محافظ الرقة عبد الرزاق خليفة ما وصفه بتخفيض أنقرة في الآونة الأخيرة للوارد المائي من نهر الفرات من 500 إلى 200 متر مكعب في الثانية، وفق تصريحاته لوكالة الأنباء الرسمية "سانا"، الأمر الذي حال دون تشغيل عنفات توليد الكهرباء المنتجة وتدنّي مياه الري والشرب.
حروب التعطش وتهديد الأمن الغذائي
في المقابل، تتشاطر القوى الكردية في الشمال الشرقي للبلاد، مع الحكومة السورية التي يمر النهر بمناطق نفوذهما المصير ذاته، إذ يساورهما القلق والتوجس حول ما ستفضي إليه حالة النهر بعدما شكّل مصدراً للحياة لأهالي المنطقة بأسرها، علاوة على تزويده مساحات شاسعة من الأراضي حيث يروي سد الفرات، أكبر السدود في سوريا ما يقارب 640 ألف هكتار.
وبعيداً من الخلافات بين الأكراد ودمشق، تصدرت البيانات الرسمية وبصوت مرتفع منذ شهر مارس (آذار) الفائت من الطرفين عن كارثة انخفاض المنسوب، مطالبة المنظمات الدولية بالتحرك والضغط على إسطنبول بحصتها من الضخ من دون تلقّي أية إشارات إلى الاستجابة بهذا الشأن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويدخل الفرات إلى سوريا عبر مدينة جرابلس ويمر بالرقة وبعدها إلى دير الزور ويخرج إلى الأراضي العراقية من منطقة حدودية يطلق عليها البوكمال. وبعد سلسة من موجات الجفاف، ظهرت قرى كان غمرها نهر الفرات قبل عقود في مدينة جرابلس الحدودية.
مخاوف المزارعين
وقدّرت الإدارة الذاتية وفق بيانات المراقبة الخاصة بها زيادة الانخفاض بأربعة أمتار في بحيرة سد تشرين، ويزيد الانخفاض أيضاً على ثلاثة أمتار في بحيرة سد الفرات.
في حين تتفاقم مخاوف المزارعين بعد توقف تام لما يناهز 15 مضخة من مضخات الري، مما ينذر بكارثة، ستهدد بالتالي محاصيل موسمية تشتهر بزراعتها المروية مثل القمح والذرة والقطن والسمسم وغيرها من المحاصيل، إذ تمثّل هذه الأراضي في الشمال الشرقي "سلة غذاء سوريا".
وقرع المرصد السوري لحقوق الإنسان ومقره بريطانيا أجراس خطر وقوع كارثة بيئية تهدد الأمن الغذائي في الجزيرة السورية، إضافة إلى كارثة إنسانية تهدد نحو مليونين ونصف المليون من السكان المستفيدين من نهر الفرات في مناطق متفرقة كالرقة والحسكة ودير الزور وكوباني.
النهر في عين القانون
وأطلق ناشطون عرب وأكراد على حد سواء نداءات عبر مواقع التواصل الاجتماعي للتنبيه بالمخاطر المقبلة، لا سيما خطر العطش في فصل الصيف، أو انقطاع الكهرباء، فيما عاشت محافظة الحسكة لبضعة أيام في ظلام دامس بسبب توقف محطة التوليد الكهربائية عن الخدمة.
من جهة ثانية، يشرح المحامي والمتخصص في العلوم السياسية عواس الخليل، انعكاس انخفاض منسوب النهر وكيف خرج الكثير من المضخات المائية على كتف النهر عن الخدمة لعدم إمكانية شفط المياه من مجرى النهر.
بالتالي، ظهرت معاناة إنسانية لسكان المنطقة من قلة مياه الشرب، يضاف إليها أن موسم البعل لهذا العام لم ينتج أي محصول والمنطقة بحاجة إلى الزراعة بالري التي أضحت مهددة من جراء انخفاض مياه النهر.
ويضيف الخليل، "نحن أمام أزمة دولية إنسانية مختلقة، ويتوجب على الأمم المتحدة الراعية للقانون الدولي إلزام تركيا بنود الاتفاقية الدولية الخاصة بالأنهر العابرة لعام 1997 التي تمنع أنقرة من التعسّف وبشكل غير إنساني من الانتفاع بمياه نهر عابر على حساب حرمان دول يمر بها هذا النهر".
"الجفاف" المتهم الأول
في المقابل، يشكّك الباحث التركي في الشأن السياسي بكير أتاجان بتوقيت الحديث عن انخفاض المنسوب، مبيّناً لـ"اندبندنت عربية" التزام بلاده الاتفاقات الدولية للمياه في ما يخص نهرَي الفرات ودجلة، كاشفاً عن وجود تقارير ترسل تدريجاً حول واقع هذه الأنهار والنسب المتفق عليها، ويعزو الانخفاض إلى ما وصفه بالجفاف هذا العام.
ويوضح الباحث التركي أن الجفاف أصاب حتى مدينة إسطنبول، وثمة مؤشرات تنبئ ليس بالعطش، بل بفقدان المياه، لافتاً إلى أن الجفاف يضرب العالم كله.
ويرى أن عوامل طبيعية لعبت دوراً في ذلك، وحتى العراق يشتكي للسبب ذاته، ولعل زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي إلى تركيا تندرج لمناقشة هذا الجانب، "هناك مؤشرات إلى إرسال مياه لتقاسمها بين الدول التي يمر بها النهر، وليس الانخفاض بالمنسوب حالة مقصودة، أو مردّها دواعي سياسية كما يحكى".
وأنبأ أتاجان إلى تعيين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وزير المياه السابق للتأكد من وقائع ما يحدث في نهر الفرات وطلب منه الاتجاه إلى سوريا لمعرفة الجوانب الكاملة للمشكلة، "كانت تعليمات الرئيس التركي في هذا الخصوص للتحقق من الأمر ومعالجته، إلا في حال كانت العوامل طبيعية".
عنفات السدود
وتغرق مناطق تتقاسمها قوات النظام السوري وقوات الإدارة الذاتية في الشمال الشرقي في الظلام بعد خروج محطات الطاقة الكهربائية عن العمل بشكل نهائي.
في المقابل، تتعالى الأصوات في الداخل السوري لإيقاف الإجراءات التركية عبر الأقنية الدولية صاحبة الشأن، بعد ما بنت أنقرة 22 سدّاً ومن أضخمها سد أتاتورك إلى جانب 19 محطة كهرومائية وكل ذلك على مجرى سرير النهر البالغ طوله 1176 كيلومتراً في أراضيها.
بينما يذكّر المحامي والباحث القانوني عواس خليل بالاتفاقية الدولية بين الحكومتين التركية والسورية، التي يتضمن نصها عام 1997 بأن تلتزم أنقرة ضخ ما لا يقل عن 500 متر مكعب في الثانية.
ويردف أن أنقرة تنصّلت من نصوص الاتفاقية الدولية، والآن خفضت المنسوب المتدفق إلى أقل من 200 متر مكعب في الثانية وهذه الكمية لا تكفي لتشغيل عنفات السدود لمدة زمنية كافية.