قبل 80 سنة، أي في ربيع عام 1941، قضت انتحاراً غارقة في المياه التي كثيراً ما كتبت عنها وما حلمت به، واحدة من كبيرات المبدعات في القرن العشرين، فرجينيا وولف التي تقف إلى جانب قمم شامخة في الأدب الروائي من طينة جيمس جويس وفرانز كافكا ومارسيل بروست بكونها رائدة من رواد الحداثة الحقيقية. ومع ذلك يمكننا أن نقول هنا في هذه الذكرى الـ 80، إن في الحقيقة ثمة أكثر من فرجينيا وولف واحدة، فهناك أولاً الروائية فرجينيا وولف وكتاباتها الإبداعية في هذا المجال. وهناك بعد ذلك طبعاً صاحبة "يوميات كاتبة" التي تُعتبر بأجزائها العديدة من أهم اليوميات التي خلفها كاتب من القرن العشرين. وهناك طبعاً فرجينيا وولف المناضلة سياسياً، ثم تلك المجلدات الخمسة التي تحمل عنواناً واحداً مرقماً من واحد إلى خمسة، هو "دراسات بقلم فرجينيا وولف". وبخاصة ضمن تلك المجموعة نفسها، نجد الكتاب المميز وعنوانه "سرير موت القبطان ودراسات أخرى"، الذي صدر بعد موتها كعدد من كتبها الأخرى التي تشكل مجموعة "الدراسات"، وكان من إعداد وتحرير زوجها ليونارد وولف الذي كان شريكها في الحياة والتفكير والنضال الأدبي ضمن جماعة بلومسبيري. وللقارئ أن يختار.
ونحن نعرف أنه إذا كان معظم القراء يختارون عادةً روايات يبحثون فيها عن متعة القراءة وجوهر الأدب وروح الكاتبة نفسها وتطور لغتها الإبداعية، فإن كثراً أيضاً يختارون "اليوميات" غالباً للسبب نفسه، لكن أيضاً للإضاءة على ذلك الأدب الإبداعي ومن ثم بالتأكيد سعياً لمعرفة الأسباب التي دفعت فرجينيا وولف، أولاً إلى الانتحار، وثانياً إلى اختيار الانتحار غرقاً.
لكلّ حصته
أما الذين يختارون الدراسات التي ملأت المجلدات الخمسة، أو التي تشغل صفحات الكتاب الذي نتوقف عنده هنا ويحمل الرقم أربعة في المجموعة، وكان يُفترض أن يكون الأخير فيها، لولا أن محرر الكتاب أعلن بعد ذلك أن ثمة مجلداً خامساً وأخيراً ينتظر دوره بعدما كان قرر عدم نشره، فلهم شأن آخر بالتأكيد. ذلك أن هؤلاء وشأنهم في ذلك ولو جزئياً شأن الفئة الثانية من قراء وولف (قراء اليوميات)، ينظرون إلى هذه الكاتبة، ليس فقط بوصفها المبدعة الكبيرة التي كتبت "مسز دالاواي" أو "غرفة يعقوب" أو "الأمواج" أو غيرها، بل بوصفها باحثة كبيرة أيضاً وناقدة حادة النظر ملمّة بآداب الزمن الذي عاشته بكل صخبه، كما بأدب الأزمان السابقة عليها. ولعل ما يلفت النظر في "سرير موت القبطان" أو في المجلدات السابقة عليه، هو أن فكرة الموت تكاد تكون غائبة عنه على عكس ما يمكننا رصده في الروايات أو في "اليوميات".
بين المبدعة والباحثة
حين تكون فرجينيا وولف باحثة وربما أيضاً مؤرخة للأدب، كانت تكتفي بأن تكون كذلك ويصعب عليها أن تدخل عواطفها الشخصية في الكتابة، ومع ذلك لن يصعب علينا أن نلاحظ كيف أن الكاتبة وخلال كتابات السنوات العشر الأخيرة من حياتها التي تشكل متن "سرير موت القبطان"، تبدو على عجلة من أمرها تماماً كما تفعل في "اليوميات" ولكن بتطويل أكثر بالنسبة إلى الكتابات التي تتصدى لها نقداً وتعليقاً. تكتب بسرعة، تختصر، تدمج، وكأنها تريد أن تقول كل شيء قبل كلمة النهاية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن ما تكتبه فرجينيا وولف وبوفرة مدهشة، إنما هي نصوص تتحدث فيها عن قراءاتها، عن الكتب الأدبية والفلسفية والفنية التي اعتادت مطالعتها في شكل يومي وربما عن مسرحيات يحدث لها أن تشاهد عروضاً لها، بحيث أن الناتج في هذا السياق يشكل فناً نقدياً مدهشاً يطاول عشرات الكتب والأعمال الإبداعية الأخرى، بدءاً بنصوص الفلسفة والمسرح اليونانية، وصولاً إلى آداب القرن العشرين، وهذا المتن يكشف أن فرجينيا وولف كان يمكنها أن تكون ناقدة كبيرة أيضاً ومؤرخة للأدب والفكر لو أن الوقت قد أتيح لها لكي تنسق تلك الكتابات وتربط فيما بينها، إذ إن نظرتها إلى الأعمال التي تكتب عنها يهيمن عليها قدر كبير من المعلومات والتحليلات، سواء كان الموضوع مسرحية إغريقية أم رواية إنجليزية أو نقداً أو شعراً ألمانياً. يكشف هذا طبعاً عن نهم إلى القراءة، ولكن أيضاً عن نهم إلى المعرفة وربما إلى خلق نوع من المشاركة مع قرائها "النخبويين" في نهاية الأمر.
الحدود بين الذات والآخر
لكن هذه الدراسات تكشف أيضاً في طريقها، ولو بشكل موارب يحتاج تمحيصاً قبل ظهوره واضحاً، عن أن القراءة كانت بالنسبة إلى فرجينيا وولف خلال سنواتها العشر الأخيرة، ملجأً من كآبة العالم. مهما يكن من أمر فإننا اذا كنا نلاحظ في يومياتها، لا سيما تلك التي تتعلق بالسنوات الأخيرة من حياتها، نزوعاً إلى نوع من السوداوية في الحديث عن الناس، لا سيما عن لندن وإنجلترا وضبابهما النفسي بقدر ما هو طبيعي، نلاحظ في الدراسات حين نجدها منصرفة إلى ذكر نص أدبي أو فكري أو حتى عمل فني، أن ذلك النزوع يتضاءل، بل يختفي حين تكرس صفحات للحديث عن هذا العمل. مرة أخرى، على السطح على الأقل تعطي فرجينيا وولف "ما لقيصر لقيصر وما لله لله"، مما يجعلها تنتمي إلى صنف نادر من كتاب يعرفون كيف يرسمون الحدود الدقيقة الفاصلة بين الكتابة عن الذات والكتابة عن الآخر.
موضوعية الحياة العامة
بيد أن هذا ليس كل شيء، إذ ثمة في متن الدراسات المنشورة أيضاً نوعاً من التأريخ للحياة الأدبية الإنجليزية خلال فترة بين الحربين، إذ علينا ألا ننسى هنا أن فرجينيا وولف وزوجها كانا خلال الحقبة الأولى من تلك الفترة مؤسسي منشورات "بلومسبيري" التي كانت تنشر الكتب الطليعية وترجمات أعمال أدبية أجنبية كبرى، ناهيك عن أن تلك المنشورات كانت أشبه بمنبر لمجموعة من الفكرين والأدباء الإنجليز التقدميين، من ذوي النزعة الاشتراكية الفابية، ولعل مراجعات الكتب التي نشرتها فرجينيا وولف وانتشرت على صفحات هذه المجموعة التي نشير إليها من الدراسات تشكل خير مرجع لمتابعة تطور تلك المجموعة من المفكرين الإنجليز المتنورين وتطور منشوراتهم، كما تحدد لنا كيف أن اجتماعات هؤلاء كانت منتظمة تسودها نقاشات فكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية، تنطلق من صورة الأوضاع العامة في إنجلترا تلك المرحلة.
واللافت هنا هو أن دراسات فرجينيا وولف كما يومياتها تعطينا في صفحات كثيرة، صورةً عن تلك المرحلة ونشاطاتها الفكرية خلالها، تكاد تكون موضوعية تماماً، بمعنى أن ذاتها التي نجدها في رواياتها قوية الحضور وأساسية في يومياتها في شكل عام، تخلي المكان في تلك الفصول لحديث متقطع عما كان يحدث في الحياة العامة. ولا شك في أن القارئ النبيه يجد متعة كبيرة في التفاعل مع تلك الصفحات المكتوبة بعناية المؤرخ وحرص الأديب وذكاء الكاتب الذي يجد نفسه، ولو مرغماً، معنياً بالشؤون العامة.
أدب طليعي لحياة قصيرة
من الواضح أن هذا كله يشكل تفوق هذا الكتاب الذي ينظر إليه كثير من النقاد والباحثين على أنه واحد من أجمل النصوص غير الأدبية التي صاغها قلم كاتب في القرن العشرين، إضافة إلى كونه، وكما أشرنا، يتكامل مع "اليوميات" ليشكل مفتاحاً لا بد منه لمن يريد أن يقرأ أدب فرجينيا وولف.
بقي أن نذكر أن فرجينيا وولف ولِدت تحت اسم آدالين فرجينيا ستيفن عام 1882 في لندن، التي عاشت فيها معظم سنوات حياتها لتموت انتحاراً يوم 28 آذار (مارس) 1941، وهي في الـ 59 من عمرها، وعُرفت دائماً كروائية وأديبة تُعتبر من كبار الأدباء الطليعيين خلال النصف الأول من القرن العشرين، وعُرفت أيضاً بتبنيها المبكر لكل ما ينتمي إلى الحداثة، سواء في المجال الروائي أو السياسي، وهذا ما قادها إلى جماعة بلومسبري ومن ثم إلى كتابتها كل تلك الأعمال الأدبية الكبرى التي تُعتبر مؤسِسة للحداثة في القرن العشرين، مثل "نحو الفنار" و"أورلاندو" و"مسز دالاوي".