منذ البداية لا بد من تصحيح خطأ شائع ينظر عادة إلى رواية "شرقيّ عدن" للكاتب الأميركي جون شتاينبك بوصفها رواية أحداث تقع في المناطق المتاخمة لعدن جنوبي الجزيرة العربية. ونعرف أن أصحاب هذه الفرضية يبدون خيبة أمل ودهشة حين يدركون أن الرواية لا علاقة لها بعدن العربية المعاصرة لا من قريب ولا من بعيد، على العكس مثلاً من كتاب الفرنسي بول نيزان "عدن الجزيرة العربية" الذي سبق هذه الرواية الأميركية بالظهور بما لا يقل عن عقدين من الزمن.
قايين بعد قتله هابيل
فالعنوان في رواية شتاينبك هو اقتباس من سفر التكوين يشار فيه إلى الجهة التي انسحب إليها قايين، "في بلاد نود، شرقيّ عدن" بعد أن قتل أخاه هابيل. وهو ما يجعل العنوان نوعاً من رمز يشير إلى الأحداث المعاصرة التي تقصها الرواية و"المستوحاة" على أي حال من تلك الحكاية التوراتية التأسيسية، في معرض الحديث عن الصراعات التي يرويها الكاتب الأميركي المعاصر في تلك الرواية التي ستقول زوجته، إنه ما إن انتهى من كتابتها في عام 1952 لتكون آخر رواياته الكبرى وأسهمت في نيله جائزة نوبل للآداب، حتى قال لها إنه يعتبرها أهم رواياته على الإطلاق، والرواية التي يبدو لديه أنه خاض كل تجاربه الأدبية منذ عقود طويلة كي يتوصل إلى كتابتها.
روايات ضخمة
ومع ذلك، لا بد من التذكير بأن جون شتاينبك هو مؤلف أعمال روائية ضخمة صدرت أواسط القرن العشرين ومنها، "في معركة مشكوك فيها"، و"عن الفئران والرجال"، و"تورتيلا فلات"، و"عناقيد الغضب"، و"رحلات برفقة تشارلي"، المعتبرة رواية حتى وإن لم تكن كذلك تماماً. وهي أعمال تعتبر من قمم الروايات الأميركية بل العالمية في القرن العشرين، وشكلت الأساس لأفلام سينمائية من أروع ما حُقق في هوليوود أواسط ذلك القرن كما حال "شرقيّ عدن" التي حققها إيليا كازان وأطلق من خلالها نجومية جيمس دين. والحقيقة أن شتاينبك قد يكون منسياً بعض الشيء في هذه الأيام على عكس مجايليه إرنست همنغواي وويليام فوكنر، لكنه لا يقل عنهما أهمية بل ثمة من بين أعماله ما يفوق بعض أعمالهما. وإذ نقول هذا نفكر طبعاً في "شرقيّ عدن".
شيء من تاريخ الذات
في المقام الأول يصر شتاينبك على اعتبار "شرقيّ عدن" رواية عائلية، مؤكداً أن موضوعها رغم توراتيته، يمت بصلة تاريخية وأساسية إلى تاريخ أسرة أهله لأمه. أي إن الأحداث التي تشكل الرواية حدثت فعلاً في زمن سابق لأسرة الوالدة ومعظم الأحداث إن لم يكن الكاتب قد عاشها، رويت إليه بشكل أو بآخر ما مكنه من جمع الفقرات والحكايات وتوحيدها في نهاية الأمر. ومع ذلك لا بد من التنبيه هنا إلى أن الفيلم الذي اقتبسه إيليا كازان بنفس العنوان، لا يقتبس سوى جزء يسير من الأحداث حيث "لو أردنا اقتباس الرواية كلها لاحتجنا إلى عشرة أفلام" كما قال كازان يومها. ومن هنا لن تغني مشاهدة الفيلم الذي كان الأول بالألوان وبالسينما سكون لكازان، عن قراءة الرواية. فإذا كان الفيلم يركز على الصراع بين شاب وأبيه، فإن الرواية تتجاوز ذلك كثيراً لتشمل تاريخ العائلة، بل حتى تاريخ عائلتين، ما يبرر العنوان الذي يبدو الفيلم قاصراً عن تبريره.
وادي ساليناس
إذاً في الرواية لدينا عائلتان آل تراسك وآل هاملتون، ولكن لدينا أيضاً مكان محدد هو "وادي ساليناس" بـ"مشاهده وأصواته وروائحه وألوانه"، بحسب تعبير شتاينبك نفسه. وهذا الأخير لا يفوته على أي حال أن يخبرنا أن قصده الأول من الرواية كان أن يكتبها لولديه توم وجون اللذين كانا لا يزالان يعيشان طفولتهما عند إنجازه الرواية. ولئن كان ثمة عائلتان في الرواية تتعايشان وتتصارعان، فإن عائلة هاملتون منهما هي التي بناها الكاتب انطلاقاً من أسلاف أمه، علما أن اللقاء بين العائلتين لن يتم إلا بدءاً من القسم الثالث من الرواية، حيث إن شتاينبك يروي لنا في الأول حكاية كل من العائلتين منفردة. فالأولى، عائلة هاملتون تترك أواخر القرن التاسع عشر إيرلندا الشمالية لتستقر في كاليفورنيا مع صبيانها الأربعة وبناتها الخمس، فيما يطالعنا مؤسس عائلة تراسك سايرس أول ما يطالعنا جندياً جريحاً في ساقه يمتلك الآن مزرعة في ولاية كونكتيكت وينجب ولدين من زواجين، أولهما، آدم، والثاني تشارلز.. وإذ تتوقف الأحداث هنا بتعريفنا على العائلتين عند نهاية القرن التاسع عشر نجدنا مع بداية الذي يليه في القسم الثاني. وهذا القسم مخصص بأكمله لحياة التجوال التي يعيشها آدم متنقلاً بين الحين والآخر، في مناطق مختلفة من الولايات المتحدة إثر صراعات تتوالى مع أخيه تشارلز. وينتهي القسم بلقاء آدم مع تلك التي سيتزوجها لاحقاً.
حكاية آدم وولديه
في بداية القسم الثالث يقرر آدم نهائياً، وإثر خناقة عاصفة مع أخيه، أن يستقر في كاليفورنيا هذه المرة وتحديداً في وادي ساليناس حيث يعيش آل هاملتون. وهناك تلتقي أسرة آدم بهؤلاء لتختلط بهم. وتتعزز العلاقة أكثر حين يتولى الخادم الصيني لي في بيت هاملتون العناية بتوأمين أنجبهما آدم وزوجته التي لن تتأخر هي في هجران بيت الأسرة تاركة لآدم والخادم الاهتمام بالتوأمين آرون وكاليب. ويقودنا هذا إلى القسم الرابع والأخير من الرواية حيث يكون آدم قد انتقل إلى المدينة ليعيش مع ولديه اللذين سيعرفان ذات لحظة أن أمهما لم تمت كما كان الأب قد قال لهما، بل لا تزال حية ما يعزز صراعات كانت أصلاً قد بدأت بين كاليب وأبيه، وهي الصراعات التي سوف يركز عليها إيليا كازان موضوع الفيلم المقتبس من الرواية...
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قايين وهابيل في الصورة
صحيح أن شتاينبك اشتغل على هذه الرواية "البيوغرافية" والممكن إلى حد ما اعتبارها رواية أجيال أيضاً، انطلاقاً من أحداث عائلية عايش هو بعضها، لكن النقاد والمؤرخين يؤكدون دائماً أن الاقتباس التوراتي يطغى عليها، لا سيما تلك الفقرات من "سفر التكوين" التي تروي حكاية قايين وهابيل بقدر كبير من التفاصيل، لا سيما بالنسبة إلى التيمات التي نشرها الكاتب بكل وضوح في ثنايا أقسام الرواية المتتالية مثل الحب وفعل الخير والحرمان والصراع الذي يخوضه المرء كي يقبل به الآخرون... وصولاً إلى قدرة الإنسان المريعة على تدمير ذاته والإحساس بالذنب والتوق إلى الانعتاق...
حكاية كل بيت!
عندما نشر جون شتاينبك هذه الرواية في عام 1952 وستعتبر أطول رواياته بصفحاتها التي تقارب الثمانمئة صفحة، تحقق له من خلالها ما كان يحلم به طوال حياته من نجاح أدبي إذ سرعان ما أضحت خلال أسابيع قليلة ذات مكان متقدم في لوائح الكتب الأكثر مبيعاً إلى درجة أن شتاينبك أخبر أحد أصدقائه بأن القراء يمطرونه برسائل يؤكدون له فيها أن ما ترويه الرواية هو حياتهم الشخصية. غير أن النقاد الأكثر جدية، كانوا أقل حماسة من القراء، هم الذين أخذوا على الكاتب إفراطه في الإيحاءات الجنسية التي تصل إلى حدود الإباحية، وكذلك نزعته الفردية، حيث في بعض لحظاتها تبدو الرواية وكأنها دعوة إلى الفردية الخالصة، فيما أخذ عليه آخرون استعماله المسقط اعتباطياً للبعد التوراتي والبعض افتقار الرواية للتوازن في روايتها حكاية العائلتين. لكن الرواية، وعلى الرغم من كل تلك الآراء السلبية والمآخذ الجدية، عرفت كيف تسلك طريقها، أولاً حين ظهورها كرواية، وبعد ذلك طبعاً بفضل الاقتباس السينمائي الذي حققه كازان وتحديداً بفضل الأسطورة التي تحول إليها جيمس دين الذي لعب الدور الأساسي في الاقتباس قبل رحيله المبكر والمفاجئ. وتعتبر رواية جون شتاينبك (1902 – 1968) هذه اليوم واحدة من أشهر الروايات الأميركية حتى وإن كان كثر يفضلون عليها ثلاثاً على الأقل من روائع الكاتب الأخرى: "عن الفئران والرجال"، و"عناقيد الغضب" وطبعاً "تورتيلا فلات" وكلها اقتبست في أفلام بديعة.