لكل من بيل غيتس، مؤسس شركة "مايكروسوفت"، وزوجته ميليندا، أياد بيضاء في العمل الخيري حول العالم، فعلى مدى عقود ترك رابع أغنى رجل في العالم وزوجته بصمات واضحة على الساحة من خلال صندوق وقف خيري بقيمة 50 مليار دولار للإنفاق على التعليم في مرحلة الطفولة المبكرة والصحة العامة، وقد أنفقا أكثر من مليار ونصف دولار لمكافحة وباء كوفيد-19، فضلاً عن مئات الملايين التي ساعدت في الحد من الوفيات الناجمة عن مرض الملاريا والأمراض المعدية الأخرى، إضافة إلى أموال أخرى لدعم أبحاث تطوير اللقاحات في البلدان الأكثر فقراً، فما مصير 5 مليارات دولار من المنح السنوية التي تنفقها مؤسستهما في 135 بلداً حول العالم بعد الإعلان عن طلاق بيل وميليندا غيتس، وكيف سينعكس ذلك على مؤسستهما الخيرية و1600 من العاملين فيها؟
فضل لا ينكر
لا ينكر المجتمع المدني حول العالم فضل بيل غيتس وزوجته وهما من أغنى الأشخاص في العالم، في إعادة تشكيل معايير العمل الخيري الخاص والصحة العامة خلال القرن الحادي والعشرين عبر الثروة التي جمعها غيتس على مدى أكثر من 40 عاماً، كمؤسس مشارك لواحدة من أهم وأكبر شركات التكنولوجيا الأميركية وهي "مايكروسوفت". فعلى الرغم من طموحاتهما البسيطة في البداية لتوفير شبكة الإنترنت مجاناً للمكتبات العامة في الولايات المتحدة، فإن أهدافهما نمت وتطورت بسرعة حتى حققت مؤسستهما مكانتها الحالية ووصلت إلى أعلى المستويات الحكومية وقطاع الأعمال والقطاع غير الهادف إلى الربح. ما جعل تأثيرها هائلاً بجهد 1600 موظف وخمسة مليارات دولار من المنح السنوية التي توزع على 135 بلداً حول العالم.
لكن النجاح والشهرة أصبحا فجأة موضع تساؤل، بعد ما تفاجأ العالم أن الرئيسين المشاركين للمؤسسة التي تحمل اسمهما، واللذين تزوجا قبل 27 عاماً، تقدما بطلب للطلاق في ولاية واشنطن على الساحل الغربي للولايات المتحدة. وهو ما قد يؤثر على المنح الضخمة التي تتلقاها عشرات الدول، فضلاً عن الانعكاسات المحتملة على مهمة المؤسسة.
تغييرات محتملة
وعلى الرغم من أن الرسالة التي وصلت إلى جميع العاملين في المؤسسة من المقر الرئيس في مدينة سياتل كانت قاطعة وواضحة بأن انفصال الزوجين بيل وميليندا غيتس، لن يغير من التزامهما أو أدوارهما كرئيسين مشاركين وأمناء للمؤسسة، بما في ذلك تحديد جدول الأعمال والأولويات، فإن علامات القلق ما زالت بادية على وجوه العاملين في المؤسسة، كما لا تزال الشكوك تساور الدول المتلقية لمساهمات المؤسسة الخيرية.
ويعود سبب هذه التخوفات إلى ما أكده المتخصصون في العمل الخيري من أن وقف المؤسسة البالغ 50 مليار دولار في صندوق خيري ليس من الوارد حالياً إلغاؤها أو تقسيمها بين الزوجين المنفصلين. لكن، لا توجد ولاية قانونية تمنعهما من تغيير مسارهما الحالي الذي تعهدا به. ولهذا من المحتمل أن تحدث تغييرات مستقبلية، خصوصاً أن كلاً منهما ظل يتمتع بشخصية مستقلة وحظي بالاهتمام والتقدير في جميع أنحاء العالم.
سحر غيتس
فقد ظل بيل غيتس مثيراً للإعجاب في الولايات المتحدة منذ اللحظة التي ظهر فيها كمؤسس لشركة "مايكروسوفت"، وتحول عبقري الكمبيوتر النموذجي إلى رائد أعمال، وأصبح خلال سنوات معدودة أغنى رجل في العالم، ليتصدر غلاف المجلات والصحف العالمية وتصبح كل كلمة له بمثقال الذهب، لكن مع رفع وزارة العدل الأميركية قضية مكافحة الاحتكار ضد "مايكروسوفت" عام 1998 بدأ الجميع ينظر إليه باعتباره جون روكفلر الجديد الذي يهيمن على السوق بكل الإيجابيات والسلبيات التي ترافق تشبيهه بقطب الأعمال الأشهر (روكفلر) الذي كان يوصف بأغنى رجل في أميركا خلال كل العصور.
ولكن، في العقود التي تلت هذه القضية، تمكن غيتس من تغيير صورته عبر العمل مع زوجته ميليندا بشكل مشترك مع مؤسستهما الخيرية، وأصبح معروفاً بكرمه بدلاً من قسوته في العمل. كما استطاعت المنح الضخمة التي قدماها، والتي اقتربت من 55 مليار دولار إلى منح الزوجين القدرة على التواصل الفوري مع زعماء ورؤساء الدول وقادة الصناعات.
صعود ميليندا
في المقابل، بدأت صورة وشخصية ميليندا غيتس في التنامي والظهور سواء من خلال عملها في المؤسسة أو عبر شركتها الخاصة التي استخدمتها منذ عام 2015 في خدمة قضايا التمكين الاقتصادي للمرأة. كما لاحظ المراقبون أن ميليندا غيتس أضافت اسمها قبل الزواج إلى ملفها الشخصي على "تويتر"، ما اعتبره البعض مؤشراً على توترات محتملة في العلاقة التي تربطها بزوجها.
وخلال انتشار وباء كورونا، وظف الزوجان علاقاتهما العام الماضي للتصدي للوباء، وطالبا قادة عالميين مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، إلى حشد الدعم لخططهما في المؤسسة التي خصصت 1.75 مليار دولار حتى الآن بهدف توفير اللقاحات في الدول الفقيرة.
تحت الضوء
غير أن هذا الصعود، واجهه نصيب عادل من الاهتمام والتدقيق الإعلامي، إذ سُلط الضوء على دفاع غيتس القوي عن حقوق الملكية الفكرية وبخاصة براءات اختراع اللقاح حتى في أوقات الأزمات الشديدة، فضلاً عن السؤال الأكبر عن كيف يمكن للأشخاص الأثرياء غير المنتخبين أن يلعبوا مثل هذا الدور الضخم على المسرح العالمي.
وينبع ذلك التدقيق الإعلامي من حقيقة أنه ينبغي في مجتمع مدني ديمقراطي ألا تسيطر الخيارات الشخصية للزوجين غيتس على مراكز الأبحاث الجامعية والمنظمات غير الربحية وتدفعهم إلى التساؤل عما إذا كان في إمكانهم الاستمرار.
بدء تقسيم الثروة
ومع توقيع الطرفين على طلب الطلاق، أشارت أوراق قانونية إلى عقد انفصال بين الزوجين، بينما أظهرت بيانات لجان للأوراق المالية إلى تحويلات ملايين الأسهم من شركة السكك الحديدية الكندية وشركة "أوتو نيشن" بقيمة 1.8 مليار دولار وشركة "كاسكيد انفستمنت" التي يمتلكها بيل غيتس لمصلحة ميليندا غيتس.
وفي حين يعد المبلغ ثروة طائلة بالنسبة إلى كثيرين، إلا أنه لا يزيد على 2 في المئة من ثروة بيل غيتس بحسب تقدير "فوربس"، ولهذا اعتبر البعض أن تلك كانت مجرد بداية أو خطوة واحدة في التقسيم النهائي للثروة بين الزوجين.
اضطراب ومؤامرات
ولعل أكثر ما يثير القلق حول مستقبل المؤسسة الخيرية، الأجواء التي أحاطت بها خلال الشهور القليلة الماضية، فقبل انتشار نبأ الطلاق، كانت مؤسسة "غيتس" في خضم فترة اضطراب، إذ تسبب الوباء في إغلاق مقر المؤسسة في سياتل، فيما تزايدت نظريات المؤامرة الزائفة ضد غيتس، مثل القول بأن جهود التلقيح العالمية كانت غطاء كي يزرع بيل غيتس رقائق دقيقة لتتبع الأشخاص، وهو ما يضر بغيتس والمؤسسة، فضلاً عن الضرر العام في المجتمع لأن المعلومات المضللة زادت من تردد الناس في تلقي اللقاح.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثم توفي والد بيل غيتس، في سبتمبر (أيلول) الماضي، الذي كان رئيساً مشاركاً للمؤسسة وينظر إليه كصوت هادئ ملتزم بالأخلاق، إذ تولى زمام المبادرة في المساعي الخيرية لابنه، بينما كان غيتس الأصغر لا يزال على رأس "مايكروسوفت".
أما عضو مجلس الإدارة الثالث في المؤسسة وهو المستثمر الملياردير وارن بافيت، فقد بلغ 90 عاماً العام الماضي وبدأ مناقشة خطط الخلافة في شركته "بيركشاير هاثاواي".
ولهذا، يمكن أن تقدم التغييرات الأخيرة فرصة لإنشاء مجلس إدارة كبير ومتنوع مع زيادة الرؤية في عملية صنع القرار في المؤسسة، خصوصاً أن جزءاً من القلق داخل المؤسسة ينبع من الافتقار إلى الشفافية في الأنشطة اليومية.
مخاوف تتزايد
علاوة على ذلك، فإن مكمن الخطر ربما يأتي من المصاعب التي واجهت زواج بيل وميليندا غيتس خلال السنوات الماضية وحتى اللحظات التي أوشك فيها على الانهيار، لأنه الآن وبعد ما أصبح الطلاق رسمياً وقانونياً، يشعر البعض بالقلق من أن ميليندا غيتس ستبذل مزيداً من الوقت في شركتها الخاصة، كما سيفعل بيل غيتس الأمر نفسه ويتخلى الطرفان عن الاهتمام بالمؤسسة الخيرية.
وبينما يبدو أن المؤسسة ستمضي قدماً بمواردها الهائلة، لا تزال هناك مسألة ثروة بيل غيتس التي تقدرها مجلة "فوربس" بـ124 مليار دولار. فعلى الرغم من أن الطلاق لن يؤثر على الأموال التي يجري منحها بالفعل إلى صندوق المؤسسة، فإن الزوجين قد يخصصان أموالاً أقل للصندوق بمرور الوقت مما كان سيحصل لو بقيا معاً.
وعلى الرغم من كل ذلك، تظل آمال كثيرين حول العالم تتطلع لأن تستمر مؤسسة بيل وميليندا غيتس مؤثرة كي لا ينقطع خيط المساهمات الخيرية الحيوي للدول الأكثر فقراً في العالم.