مع فوزها التاريخي بثلاث جوائز "أوسكار" (من أصل ست "أوسكارات" ترشحت لها في حياتها)، دخلت الممثلة الأميركية الكبيرة فرانسز ماكدورماند نادي الممثلات والممثلين القلائل الذين نالوا هذه الجائزة المرموقة ثلاث مرات على امتداد مسيرتهم الفنية. صحيح أن الرقم القياسي لا يزال من نصيب كاثرين هايبرن التي نالتها 4 مرات، إلا أن ماكدورماند تأتي مباشرةً من بعدها من خلال التماثيل الذهبية الثلاثة التي أُسندت لها عن "فارغو" قبل 25 عاماً، ثم عن "ثلاث لوحات إعلانية خارج إيبينغ، ميزوري" قبل ثلاث سنوات، وأخيراً، عن أدائها المدهش في "نومادلاند" الذي كان الفائز الأكبر في الدورة الأخيرة من حفل توزيع جوائز الأكاديمية. ممثلات وممثلون آخرون نالوا الجائزة عينها ثلاث مرات، مثل ميريل ستريب وجاك نيكولسون وإنغريد برغمان ولكن كانت أحياناً عن دور ثانوي لا أساسي كما هي حالة ماكدورماند. الممثل الوحيد الذي يتعادل مع ماكدورماند في عدد الـ"أوسكارات" المسنودة له عن دور رئيس هو دانيال داي لويس، المعتزل حالياً.
في "فارغو"، الكوميديا السوداء التي وفرت لها أول "أوسكار"، قدمت ماكدورماند (مواليد شيكاغو) دوراً لم يفارق ذاكرة العديد من المشاهدين، وذلك لتميزه على كثير من المستويات. تلعب فيه دور مارج غوندرسون، شرطية من ولاية مينيسوتا تحقق في جرائم قتل حدثت بعد ما استأجر بائع سيارات يائس (ويليام هـ. مايسي) مجرمين (ستيف بوتشيمي وبيتر ستورمار) لاختطاف زوجته من أجل ابتزاز فدية ضخمة من والد زوجته الثري (هارف بريسنيل). كانت هذه أول مرة نشاهد فيها شرطية حاملاً في السينما، وإضافة إلى كونها تنتظر مولوداً فهي تقوم بواجبها المهني على أكمل وجه، بعيداً من كل الكليشيهات المرتبطة بصورة المرأة في السينما الأميركية. شكل الفيلم عند خروجه في الصالات صدمة إيجابية وقدم ماكدورماند إلى الجمهور العريض بصيغة غير مألوفة. غالب الظن أنه هناك في سيرتها المهنية، ما قبل هذا الفيلم وما بعده.
سينما وزواج
يصعب الحديث عن ماكدورماند من دون الحديث عن الأخوين جويل وإيثان كووين، المخرجين الأميركيين الشهيرين اللذين كانا السبب في دخولها إلى السينما، قبل أن يتزوج أحدهما (جويل) من هذه السيدة التي تبلغ اليوم الثالثة والستين من العمر. وقد عُرفت طوال حياتها بانخراطها في السينما المستقلة قلباً وقالباً، وتجسيدها شخصيات نسائية قوية. العلاقة بين ماكدورماند والأخوين كووين من النوع الخاص جداً، يتداخل فيها الخاص بالعام، الفني بالشخصي، وقد نتجت عنها أدوار بارزة وأفلام تخلد في الذاكرة. هم يعملون معاً منذ قرابة 35 سنة، بتواطؤ وتضامن وشراكة يندر العثور عليها في الأزمنة الحديثة. وهذا ما تأكدتُ منه من خلال متابعتي لعدة مقابلات أُجريت معهم، كانت الأخيرة في روما. ففي زيارة قام بها الثنائي جويل وفرانسز إلى العاصمة الإيطالية قبل فترة وجيزة من الزمن الكوفيدي، روت الممثلة طولاً وعرضاً كل شيء عن سيرتها فاتحة قلبها للجمهور. شرحت بالتفاصيل كيف تعرفت على جويل عام 1984، يوم كان يستعد لتصوير باكورته الروائية، "دم بسيط". فآنذاك، كان الأخوان يبحثان بلا جدوى عن ممثلة تضطلع بدور آبي، زوجة رجل من تكساس يتهمها بالخيانة فيكلف تحرياً خاصاً لمراقبة تحركاتها.
أراد جويل وإيثان إسناد الدور إلى الممثلة هولي هانتر، إلى أن أطلت عليهما فرانسز ذات يوم فجأة للمشاركة في الكاستينغ. تتذكر ماكدورماند كيف حصلت على الدور الذي كان من المفترض أن تحظى به هانتر، والممثلتان تشاركتا في هاتيك الأيام شقة واحدة في نيويورك: "عندما وصلتُ إلى المكان، كانا يدخنان سيجارة تلو أخرى. أعطياني بعض المشاهد لأمثلها. ثم طلبا مني أن أعود في الساعة الثانية بعد الظهر، فقلت لهما إنني لا أستطيع، لأن صديقي يشارك في تصوير مسلسل وعليّ أن أكون برفقته. لاحقاً، علمتُ من جويل أنه بسبب قولي "لا"، برز عنده اهتمام تجاهي، فأراد إسنادي الدور. إصراري كشف أيضاً كم أنا مخلصة تجاه مَن أحب".
عرفت السينما عبر التاريخ العديد من الأزواج الذين بدأت حكايتهم في السينما قبل أن تنتقل إلى الحياة المشتركة تحت سقف واحد. من هؤلاء: برغمان/ روسيلليني، رولاندز/ كاسافيتيس، آردان/ تروفو، كارينا/ غودار، مسّينا/ فيلليني، بونهام كارتر/ برتون... يمكن ترتيب اسم الثنائي ماكدورماند/ كووين بسهولة بين هؤلاء الكبار. هو خلف الكاميرا مع شقيقه إيثان وهي قبالتها، بلغ عدد الأفلام التي قدمها هذا الثلاثي إلى اليوم ثمانية أفلام للسينما، لعل أشهرها وأهمها هو "فارغو" الذي، بعد مرور ربع قرن على صدوره، يقول عنه جويل إنه "مستعد لاقتطاع خمس دقائق منه"، الأمر الذي يستفز فرانسز بعض الشيء، لكن يبقى عدم رضاها على مثل هذا التصريح من باب العتب لا أكثر. فهي تحب أفلام زوجها حتى تلك التي لم تمثل فيها. وعندما يقول جويل، إنه لا يمانع أن يعيد إخراج "دم بسيط"، فلا تخفي فرانسز إعجابها بفكرة تجسيد الدور مجدداً، وبطريقة مختلفة هذه المرة.
ذاكرة قوية
في سياق الحديث عن سيرتها، تصر فرانسز دائماً، وهي المتخرجة في مدرسة "يال" للتمثيل، على القول إنها تحمل شهادة من معهد الفنون الجميلة، رغم أنه لا أحد يسألها عنها عموماً. ذاكرتها قوية، لا تنسى مثلاً كيف بدت، وكيف كانت تفاصيل وجهها يوم وقفت للمرة الأولى أمام كاميرا الأخوين. "اقتصرت وظيفتي حينها على عدم القيام بأي شيء". أما جويل فقال لها: "في لحظة من اللحظات، قلتُ لها: خذي السكين واطعني به هذا الرجل. ماذا، ألم يعلموك كيف تطعنين رجلاً في معهد التمثيل؟".
تعترف ماكدورماند أنها لم تكن تعرف شيئاً عن السينما عندما انطلقت في التمثيل. فهي ما كانت يوماً مشاهدة نهمة للسينما، وهذه المهنة لم تكن طموحها، حتى كلمة تقنية مثل "بوف" (اختصار لوجهة النظر بالإنجليزية) لم تكن تعرف ماذا تعني. تروي وهي تسخر من نفسها بأنها كانت تمثل حتى عندما كانت الكاميرا تلتقط يديها فقط. ولكن بعد دخولها مجال السينما، صعبت عليها العودة إلى وظيفتها كعاملة صندوق في أحد المتاجر، خصوصاً أنها كانت تعرت في الفيلم، فاتصلت بجويل مستنجدة به بغية نيل بعض التطمينات، فرد عليها ممازحاً: "لن نبيعه كفيلم جنس، سنبيعه كفيلم عنف". "منذ ذلك اليوم"، تقول الممثلة الكبيرة، "بت أثق به، للأفضل والأسوأ".
عندما بدأت ماكدورماند العمل مع الأخوين كووين، كان جميع مَن يحوط بفريق العمل من المبتدئين. تتذكر: "كنا متحمسين! مع "دم بسيط"، رفعنا سقف الطموح عالياً. عرفنا كيف نضع العلاقة التي بيننا لخدمة الفيلم. جويل تعلم كيف يوجه التعليمات إلى الممثل، وأنا تعلمت أن أستمع. عندما عملت مع سينمائيين آخرين، كان يسألني دائماً كيف أنجزنا هذا المشهد أو ذاك".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صحيح أن ماكدورماند لعبت كثيراً من الأدوار الدرامية، لكن كان لها دائماً هذا الجانب الـ"بورليسكي" الطريف الذي عرف الأخوان كيفية توظيفه لمصلحتها. فمع "فارغو"، ذروة خلطة الـ"جانرات" على الطريقة الكووينية، اكتشفت نزوعها إلى الكوميديا: "لم أعتقد قبل ذلك اليوم أنني أصلح للكوميديا. بيد أنني اكتشفت نفسي مع "فارغو". ربما لأنني شاركتُ في كثير من المسرحيات بأدوار درامية".
تكشف فرانسز أنه أُنجز "فارغو" في أجواء عائلية، خصوصاً أن أحداثه تجري في مينيسوتا، مسقط الأخوين كووين. تقول: "لأول مرة، كنا ندرك من أين نأتي! كنا ننتظر مولوداً سأضعه بعد شهرين. كل فريق التصوير كان يعرف ذلك. هناك مشهد في الفيلم، يقول زوج شخصية الشرطية التي أجسدها لزوجته: فقط شهران، شهران فقط. هذا المولود كبر اليوم، انظروا إليه، إنه هنا في الصالة، سيتمم الحادية والعشرين بعد بضعة أشهر".
بعد كل هذه السنوات من المجد ارتفع خلالها اسمها عالياً في فضاء الفن السابع، ترى مَن هو مثالها الأعلى في التمثيل؟ تجيب بلا تردد: "الممثلة الإيطالية آنا مانياني. حضورها على الشاشة يكشف كثيراً عن حياتها. هذا الشيء غير متوافر عند الممثلات الأميركيات. أجدها مشوقة كامرأة. أخيراً، جعلني الإنترنت أكتشف بعضاً من أفلامها. هي أيضاً تأتي من المسرح. لي كثير من العاطفة تجاهها. جسدت المرأة الرومانية (من روما) مثلما أنا جسدت المرأة الأميركية، العاملة المكافحة التي تنتمي إلى الطبقة الوسطى ولم تنعم يوماً بكل المقدرات الاجتماعية. حتى عندما أضطلع بدور سيدة أجنبية، تراني أميركية".