ملخص
كثيراً ما كانت السينما الفرنسية سباقة في تصوير الشباب والأطفال والمراهقين، أي كل من هم في مقتبل تجربتهم الحياتية: اكتشاف المشاعر والوعي على الجنس والاصطدام بعالم الكبار والتمرد على القيم والتقاليد وممارسة الحرية بلا ضوابط… هذا كله ارتبط بفئة عمرية معينة، نقله عدد من السينمائيين الفرنسيين إلى الشاشة طولاً وعرضاً، ومن بينهم، على سبيل المثل لا الحصر، فرنسوا تروفو وموريس بيالا وجاك دوايون ولوي مال وسيلين سياما.
الفيلم الوثائقي "يتعلم" للمخرجة الفرنسية كلير سيمون، الذي عرض في الدورة الأخيرة من مهرجان الجونة السينمائي، هو غوص في عالم الأطفال والشباب، إذ يحملنا إلى مدرسة ابتدائية في ضواحي باريس. يتابع الفيلم، ببساطة جميلة، الواقع اليومي للأطفال في سلسلة لحظات مرهفة، مما يعيدنا إلى مشاعرنا كتلامذة. تصبح المدرسة أمام كاميرا المخرجة المتمرسة "ميكروكوزماً"، في نمط مشابه لما كانت انتهجته في فيلمها "استراحة" قبل نحو ثلاثة عقود. يستمع المشاهد إلى قصص متنوعة، في محاولة للإجابة عن بعض الأسئلة. لا تركيز على طفل معين، بل اختيار ذكي لجعل الطفولة تتمثل في كليتها، الطفولة كحالة إنسانية ثابتة.
يتطور الفيلم مضيئاً على مهارة الوسائل والتقنيات المستخدمة في هذه المؤسسة التعليمية، وعلى ردود فعل التلامذة حيالها. هي أنشطة قد تبدو بديهية، لكنها في الواقع تذكرنا بمدى أهمية هذه السنوات الأولى في تشكيل الوعي عند الإنسان. أما البساطة فتواكب الفيلم طوال مدته ليذكرنا برائعة السينما الوثائقية "أن تكون ويكون لديك" للفرنسي نيكولا فيليبير. تطلب إنجاز الفيلم شهرين ونصف الشهر، تصويراً، وكان طموح سيمون قد انطلق من رغبتها في التقاط علاقة التلامذة بالمعلمين خلال استراحة الظهيرة، لكنه شيئاً فشيئاً تطور إلى هذا العمل. تقول إن رؤيتها وجوه الأطفال، أي جمال تلك العيون وشفافيتها، أحدثت تغييراً في مسار العمل.
ولأن المدرسة حكومية، فالتلامذة في الغالب هم من أبناء المهاجرين. هويتهم الشرق أوسطية والأفريقية تصبح موضوعاً مهماً بذاته. لكن الفيلم يرفض أي صورة من صور المهاترات. بل يصالحنا مع المؤسسات التعليمية في حضور الشباب الذين سيبنون عالم الغد. من خلال تقريب المسافة بين السلطة التدريسية والمولودين من رحمها، توجه سيمون تحية من القلب إلى الطفولة وإلى هؤلاء الذين يمسكون بيدها لتلقي بهم في حضن الحياة.
فيلم آخر من الأفلام التي اكتشفناها في الجونة، يأخذ من الشباب مادة لها هو "20 إلهاً" للمخرجة الفرنسية لويز كورفوازييه التي نشأت في منطقة الجورا. فيلمها "مانو أ مانو" كان نال جائزة أفلام الطلبة في مهرجان "كان" قبل خمس سنوات. "20 إلهاً" هو باكورتها الروائية وكان قد عرض في مهرجان "كان" هذا العام، في قسم "نظرة ما" ونال جائزة الشباب، قبل أن تسند إليه جائزة "جان فيغو" المرموقة، التي سبق أن نالها سينمائيون كبار مثل جان لوك غودار وموريس بيالا.
من خلال قصة توتون (كليمان فافو) ابن الـ18، ترسم المخرجة لويز كورفوازييه، ملامح الريف الذي نشأت فيه وجمالياته. توتون شاب على قدر من الغرور لا يفعل كثيراً في حياته، يهوى الحفلات واحتساء البيرة. إلا أنه، بعد وفاة والده، يجد نفسه فجأة مجبراً على تحمل مسؤولية رعاية أخته البالغة سبع سنوات. ذات يوم، يخطر في باله صنع أفضل جبن كونتيه في المنطقة، على أمل الفوز بالميدالية الذهبية في إطار مسابقة زراعية.
ولد الفيلم من رغبة المخرجة في الإضاءة على قريتها في منطقة الجورا الفرنسية، إذ كبرت بين شباب الريف. طموحها واضح، تصوير قصة شاب محطم يحاول النهوض، بأسلوب يجمع بين الحنان والفكاهة. في تعليق لها، تقول: "من الصعب الحديث عن منطقتي من دون ذكر جبنة الكونتيه التي تشكل جزءاً من مناظرنا الطبيعية وتشغل مزارعينا. أردت وضعها في قلب الحكاية".
لا ينقص الفيلم الحيوية، بل يدمج بسلاسة، أنماط أفلام الشباب و"الوسترن"، مع لمسات من الأمل على رغم التحديات التي تواجهها الشخصيات. استعانت كورفوازييه بممثلين غير محترفين، وهناك حب واضح من جانبها تجاه هؤلاء يترجم بإيجابية عالية. تتداخل أحلام شباب الريف وخيباتهم مع جبنة الكونتيه التي تحتل مكانة بارزة ضمن الأحداث، لتصبح رمزاً لحياة كاملة تدور حول إنتاجها. تأخذ المخرجة كل ما تحتاج إليه من وقت لتصوير مراحل صناعة الجبن، لدرجة تبدو معها طقساً وثنياً. ولكن خلف هذا السعي إلى الجبن المثالي، يأتي الفيلم برؤية اجتماعية أعمق، تتمثل في الانسجام بين المعرفة وإتقان العمل والطبيعة. في كل مراحل إنجاز هذا العمل، اعتمدت كورفوازييه على أداء ممثلين شباب يسعون إلى اكتشاف ذواتهم. هذا كله في عمل يتميز بالكتابة البسيطة والصادقة التي تأتي بدفء إنساني لا يقاوم.