حين طرح زعيم تيار "المستقبل" سعد الحريري الرئيس المكلف تأليف الحكومة منذ 22 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، فكرة اعتذاره عن مواصلة المهمة خلال اجتماعه مع كتلته النيابية الثلاثاء في 4 مايو (أيار) الحالي، نظراً إلى انسداد أفق الحلول السياسية، دعاه معظم نواب الكتلة إلى التريث وصرف النظر عن الفكرة في الظرف الراهن في انتظار نتائج زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان الذي يصل بيروت خلال ساعات.
فزيارة الوزير الفرنسي يُنظر إليها من قبل بعض المطلعين على أنها مفصلية، بين جمود قاتل بسبب استمرار الفراغ الحكومي، وتوقّع تدهور اقتصادي ومالي جديد في البلد آخر الشهر الحالي مع احتمال وقف مصرف لبنان المركزي دعم السلع الغذائية والدواء والمحروقات بانتهاء مبالغ الاحتياطي العادي للمصارف لديه، ووسط ضغوط عليه من قبل بعض السلطة ليستخدم الاحتياطي الإلزامي للمصارف (حوالى 16 مليار دولار) لمواصلة تمويل الاستيراد على سعر صرف الدولار الرسمي (1515 ليرة)، فيما سعر السوق السوداء بلغ 12400 ليرة.
لكن زيارة لودريان تتم في المقابل بدعم وتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية، التي اجتمع وزير خارجيتها أنتوني بلينكن في لندن على هامش اجتماع مجموعة الدول السبع مع نظيره الفرنسي، قبل ساعات من وصوله إلى بيروت.
وانتقال لودريان سبقه أيضاً تفاهم مع موسكو، وتواصل مع الفاتيكان. وفي رأي مصدر سياسي يتابع الاتصالات بين هذه الدول، أنه إذا كانت الدول الثلاث المتابعة لأزمة لبنان على تفاهم مع باريس، فإنه يفترض توقّع ضغط غير اعتيادي لإنهاء الفراغ الحكومي في البلد خلال الزيارة.
"رسالة شديدة اللهجة" وضجيج الاعتذار
واستبق لودريان وصوله إلى بيروت فجر الخميس 6 مايو بتغريدة مساء الأربعاء على "تويتر"، قال فيها "سأكون في لبنان يوم غد موجّهاً رسالة شديدة اللهجة إلى المسؤولين السياسيين ورسالة تعبّر عن تضامننا التام مع اللبنانيين. وسنتعامل بحزم مع الذين يعطلون تشكيل الحكومة، ولقد اتخذنا تدابير وطنية، وهذه ليست سوى البداية. تؤكد زيارتي أيضاً تضامن فرنسا في مجال التعليم والطبابة والآثار، ودعمها اللبنانيين الذين يبذلون قصارى جهدهم من أجل بلدهم".
فلودريان سبق أن أعلن قبل أسبوع نيّة بلاده تقييد سفر مسؤولين لبنانيين يعرقلون الحكومة أو متهمين بالفساد إلى فرنسا، في إطار مقاربة جديدة طلب الرئيس إيمانويل ماكرون اعتمادها للتعاطي مع استمرار تعطيل الحكومة في بيروت.
وسبق وصول الوزير الفرنسي الكثير من الضجيج الإعلامي حول مسألة اعتذار الحريري عن مواصلة مهمة التأليف. بل إن هذا الضجيج ارتبط بالزيارة نفسها ورأى مراقبون أنه كان تعبيراً عن التباعد بين فرنسا والحريري.
ويعتبر بعض أوساط "المستقبل" أن الاعتذار خيار وارد في ظل الانسداد القائم حالياً في الأفق السياسي، لكنه سيتحوّل في الظرف الراهن إلى نوع من الخضوع لرغبة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بالتخلص من الحريري في رئاسة الحكومة، التي يعبّر عنها في الغرف المغلقة بين الحين والآخر، آخرها قبل أسبوعين ردّاً على قول الحريري: "فليصدر رئيس الجمهورية اللائحة الحكومية التي قدّمتها إليه في 9 ديسمبر (كانون الثاني) الماضي، وليترك للبرلمان أن يسقطها أو يمنحها الثقة". ونسبت مصادر سياسية مطلعة إلى عون قوله تعليقاً على ذلك إنه "يجب البحث عن شخص آخر غيره كي يترأس الحكومة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إشاعة الأنباء عن أن الحريري عاد يفكر بالاعتذار عن رئاسة الحكومة، بعدما كان يردد أنه من "غير الوارد" تخلّيه عن المهمة، خلال الأشهر الماضية من التعقيد والتأزم بينه والرئيس عون وصهره رئيس "التيار الوطني الحر" النائب جبران باسيل.
فالحريري شدّد أكثر من مرة على أنه لن يسلّم بضغوط عون وباسيل عليه لإحراجه ومن ثم إخراجه من المعادلة، لأنه كان يعتبر ذلك نوعاً من الاستسلام لمصلحة تفرّد الفريق الرئاسي في الحكم بالتحالف مع "حزب الله"، فيأتي هذا التحالف برئيس للحكومة ضعيف يخضع لضغوطهما. وهي الحجة التي كان يطرحها إزاء مطالبته بتقديم تنازلات وعقد تسويات مع عون وباسيل في عملية التأليف، رافضاً حصولهما على القدرة على التحكم بها على الرغم من رئاسته لها.
الخيبة الفرنسية وانزعاج الحريري
الحريري أخذ يلوّح بالعودة عن تشبّثه برئاسة الحكومة، مطلع الأسبوع إثر معرفة فريقه بأن الوزير الفرنسي لودريان طلب موعدين مع كل من الرئيس عون ورئيس البرلمان نبيه بري من دون أن يطلب لقاءه، ما أثار حفيظته، فاعتبر بعض المحيطين به أن الجانب الفرنسي يتعاطى معه على أنه يتساوى مع الفريق الرئاسي في تعطيل تأليف الحكومة.
لكن تبيّن بعد يومين من التشويق السياسي بأن لودريان سيلتقي الحريري. إلا أن هذا لا يلغي بأن خيبة باريس كبيرة مما آل إليه الوضع في شكل تنتقل إلى العقوبات ضد سياسيين لبنانيين. فالرئيس إيمانويل ماكرون وُعد بولادة الحكومة بعد 15 يوماً من زيارته الثانية إلى بيروت في 1 سبتمبر (أيلول) الماضي، حين أطلق مبادرته حيال الأزمة اللبنانية في خريطة طريق إصلاحية تشمل الإجراءات المطلوبة من أجل إنقاذ لبنان من الانهيار الاقتصادي والمالي المحتم، فنكث الفرقاء الذين اجتمع معهم بوعدهم له، وأفشلوا رهانه على انطلاقة الحلول للأزمة اللبنانية بتشكيل حكومة "مهمة".
سبق انزعاج الحريري من استثنائه من لقاءات لودريان، تسريبات مصادر فرنسية إلى صحافيين لبنانيين في باريس بأن اللوم في تأخير الخروج من المأزق يقع على النائب باسيل وإصراره على مطالب تعيق ولادة الحكومة، وعلى الحريري لرفضه الاجتماع معه، بعدما حاول مستشار ماكرون لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا السفير باتريك دوريل تأمين اجتماع بين الحريري وباسيل في باريس، لكن الأول رفض ذلك بحجة أن الجهة التي يجب أن يلتقيها ويتابع معها جهود إزالة العراقيل من أمام الحكومة هي الرئيس عون كرئيس ينص الدستور على أن يتفق الرئيس المكلف معه على إصدار الحكومة، وكونه يمثل في الوقت ذاته "التيار الوطني الحر" في السلطة، ولا حاجة إلى إدخاله في مساومات لا طائل لها مع باسيل حول تأليف الحكومة. فالحريري سبق أن خبِر باسيل وشروطه، ويعتبر منذ البداية أن الأخير يريد التحكم بتركيبة الحكومة عن طريق الحصول على الثلث المعطل فيها إما مباشرة، أو مواربة.
صيغة الحل الوسط للحكومة التي لم يمانع الحريري بالمبدأ في السير بها حين اقترحها رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط، وتبنّاها الرئيس بري على أن يبذل وساطة من أجل إنجاحها، أي 24 وزيراً من الاختصاصيين غير الحزبيين على قاعدة الثلاث ثمانات من دون ثلث معطل لأي من الفرقاء الرئيسيين، كانت رفض تسمية وزيرين مسيحيين متبقيين من قبل الحريري، بعد حصول عون على 8 وزراء. وأصرّ باسيل على أن يسمي رئيس الجمهورية هذين الوزيرين، ما يعني حصول الرئاسة على الثلث زائداً اثنين، وهو الأمر الذي يرفض الموافقة عليه لأنه يقود إلى سيطرة باسيل والفريق الرئاسي على عمل الحكومة وقراراتها.
شكوى باسيل والسعي للندّية
أكثر باسيل من الشكوى أمام السفراء في بيروت وفي الاتصالات التي يجريها السفير دوريل مع القادة السياسيين في العاصمة اللبنانية.
وكرّر الشكوى خلال اجتماعه مع نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف أثناء زيارته إلى موسكو قبل أيام، بأن الحريري يرفض لقاءه والتداول معه في التمثيل المسيحي في الحكومة كرئيس أكبر كتلة نيابية مسيحية، على الرغم من لقائه رؤساء كتل أو موفدين عنهم مثل جنبلاط والرئيس بري واستمزاجه رأي "حزب الله" في التوزير الشيعي. ورأى باسيل أن موقف الحريري يضعف الدور المسيحي في السلطة.
إلا أن أوساط الأخير تنفي كل هذه الحجج وسبق أن أجابت عنها مرات عدة، آخرها للجانب الروسي، بعد سماع بوغدانوف شكوى باسيل، بأن الرئيس المكلف لم يلتقِ أي من الكتل النيابية منذ استشاراته الرسمية التي ينص عليها الدستور في أكتوبر الماضي، واكتفى بالاجتماع مع الرئيس عون 15 مرة، والرئيس بري مرتين، وجنبلاط زاره في منزله من أجل اقتراح تسوية عليه حول الحكومة، فيما زار البطريرك الماروني مرتين كمرجعية دينية من أجل شرح العقبات التي تعترض إصدار مراسيم الحكومة.
وأوضح المتابعون لموقف الحريري أن لقاءه باسيل لا يحتاج إلى أن يكون في الخارج وبالإمكان عقده في لبنان وإذا أراد رئيس"التيار الحر" يستطيع الاتصال لطلب موعد، فيستقبله الرئيس المكلف في منزله. ويرى هؤلاء أن باسيل يريد أن تتم معاملته بندّية مع الحريري، من قبل الدول المعنية بالوضع اللبناني، ويسانده في ذلك الرئيس عون الذي يعامله كوريثه السياسي.
وبينما كانت باريس تردّد في الشهرين الماضيين أن باسيل هو المعرقل الأساسي لقيام الحكومة، بات المأخذ الفرنسي يشمل الحريري بعد رفضه مسعاها للقاء باسيل في باريس، لأن لا ضمانات بأن حكومة ستنتج منه.
تسلسل الأحداث بعد قرابة سبعة أشهر على تكليفه، دفع الحريري إلى رمي فكرة الاعتذار، على الرغم من أن اجتماعه قبل أسبوع مع رؤساء الحكومات السابقين انتهى إلى تأييد صموده على موقفه رفض شروط الفريق الرئاسي التي تؤدي إلى حصوله على الثلث المعطل الذي يكبّل عمل الحكومة ورئيسها.
تلويح الحريري بموقفه على الرغم من إبداء بعض رموز "التيار الحر" ارتياحهم له لعل هدفهم بالتخلص منه يتحقق، رأت فيه أوساط سياسية أخرى مناورة من زعيم "المستقبل" أقرب إلى الحرد السياسي حيال مساواته مع باسيل من قبل الجانب الفرنسي في تعطيل الحكومة، فيما هو التزم منذ بداية تكليفه، المقاييس التي وضعتها باريس للحكومة الجديدة.
واعتبرت أوساط "التيار الوطني الحر" وبعض المراقبين أن الحريري يشعر بأنه بات لوحده، وأن من أسباب رغبته بالخروج من السباق الحكومي، التطورات على الصعيد الإقليمي ومنها التقارب السعودي السوري الذي يعاكس موقفه في لبنان حيال سوريا وحلفائها، ويضعفه. لكن هذه الاستنتاجات تبقى في إطار التكهن في انتظار اتضاح مسارات المستجدات الإقليمية.