ليس في المنطقة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم تعبير جرى استخدامه عنواناً لمفاهيم ومشاريع متعددة ومتناقضة مثل "المشرقية". أيام صارت السلطنة العثمانية تُسمّى بـ"رجل أوروبا المريض"، شاع في الغرب والشرق تعبير "المسألة الشرقية". كان المقصود حل قضايا شعوب الشرق غير التركية المحكومة من السلطنة. وهو ما صارت ترجمته في مؤتمر فرساي بعد الحرب العالمية الأولى إلى "حق تقرير المصير" من خلال النقاط الـ 14 للرئيس الأميركي وودرو ويلسون. لكن المياه جرت تحت أقدام المؤتمرين، بحيث كان "اتفاق سايكس-بيكو" هو الذي رسم صورة المنطقة وحدود البلدان فيها تحت الانتداب البريطاني والانتداب الفرنسي والحفاظ على "وعد بلفور" بإعطاء "وطن قومي للشعب اليهودي" في فلسطين. ومع الاستقلال، صار الشعار في كل بلدان "سايكس-بيكو" هو الوحدة العربية، باستثناء لبنان الذي كان عماد التفاهم بين المسيحيين والمسلمين فيه هو: لا شرقية ولا غربية.
خلال الحرب اللبنانية والخوف من مشروع "الوطن البديل" للفلسطينيين، دعا مفكرون مسيحيون إلى "المشرقية" كعنوان للتضامن بين المسيحيين في دول الشرق، بحيث يكون لبنان القاعدة الأساسية للمشرقية التي هي أوسع من كل المذاهب المسيحية وفي طليعتها المارونية. وفي هذه الأيام، يطرح "حزب الله" شعار "الاتجاه شرقاً"، والمقصود به الانحياز إلى إيران في معركتها مع أميركا وكل الغرب والسعي إلى التركيز على العلاقات مع روسيا والصين. أما حلفاء "حزب الله"، فيستخدمون تعبير "المشرقية" كعنوان لمشروع اسمه "تحالف الأقلّيات" في مواجهة الأكثرية الحاكمة في معظم دول المنطقة، باستثناء سوريا والعراق وإيران ولبنان، وهناك مَن يذهب في الغلو إلى حد الحديث عن "حلف مشرقي" بين المسيحيين والعلويين والشيعة والإسماعيليين والدروز واليهود. وأخيراً، دعا رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل خلال زيارته إلى موسكو إلى "السوق المشرقية" التي تضم لبنان وسوريا والعراق والأردن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بعد اتفاقات السلام بين إسرائيل وكل من مصر والأردن ثم اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية، دعا شمعون بيريس إلى "شرق أوسط جديد" يتم التكامل فيه بين رأس المال العربي واليد العاملة العربية والخبرة اليهودية. لكن الدعوة بقيت معلّقة في الهواء، وسط السلام البارد مع إسرائيل، والاحتلال الصهيوني لفلسطين والجولان والجنوب اللبناني. والذين التقطوا الدعوة هم المحافظون الجدد بعد الغزو الأميركي للعراق والحديث عن "التغيير ونشر الديمقراطية" ومشروع "الشرق الأوسط الواسع" الذي عملت له غوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي ثم وزيرة الخارجية في عهد الرئيس جورج بوش الابن. وهو مشروع سمّاه المرشد الأعلى علي خامنئي "الشرق الأوسط الأميركي" وأعلن أن إيران لديها مشروع هو "الشرق الأوسط الإسلامي". اليوم، يفتح رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي صفحة الدعوة إلى "مشرق جديد"، نواته تكامل اقتصادي وتعاون سياسي وأمني بين العراق ومصر والأردن. والدعوة مفتوحة لدول عربية أخرى، خصوصاً من خلال الرغبة بألّا تصبح البلدان العربية "ساحة لتصفية الحسابات" بين إيران وخصومها.
لكن المشكلة في البداية والنهاية هي غياب الديمقراطية ودولة الحق والقانون الوطنية المدنية، دولة المواطنة. فلو كنا في دول مدنية ديمقراطية، لا أكثرية فيها ولا أقلّيات، بل مجرد مواطنين أحرار، لما احتاج أحد إلى مشاريع ومفاهيم لحماية الطوائف والمذاهب سواء كان عنوانها "المشرقية" أو أي تعبير آخر. ولو كنا نقرأ أحداث الماضي في إطار الظروف التاريخية التي فرضتها، لما تمسّكنا اليوم بكل مرارات الماضي وعداواته، ولما ظللنا أسرى المخاوف والرغبة بتصحيح "التاريخ". مع معرفة الجميع بأن هذه مهمة مستحيلة وخطيرة ولا تقود إلا إلى تكرار التاريخ بكل الأخطاء والأحقاد، بدل تنقية الذاكرة وبناء الحاضر والمستقبل بعقول منفتحة.
فلماذا لا نأخذ مثال اليابان التي تمكّنت من التوازن بين الحفاظ على الجيّد من التراث، وهو هناك قديم ومتجذر، وبين التطور الاجتماعي والعلمي؟ لماذا نخاف من الذهاب إلى النهايات في الأمور التي يجب أن تنتهي، للفسح في المجال أمام بدايات جديدة؟
يقول الدكتور مكرم رباح، الأستاذ في الجامعة الأميركية في بيروت في كتاب "صراع على جبل لبنان، الدروز والموارنة والذاكرة الجماعية" أن المطلوب هو "تشريح الذاكرة الجماعية". والمعنى العملي لذلك هو "نزع السلاح من الذاكرة الجماعية للمجتمعات المختلفة".
والمسار طويل وصعب ولكن لا بد منه.