في كتابه "الأرمن في مصر"، يقول الدكتور محمد رفعت الإمام أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر، إنه في عام 1915، رست في ميناء بورسعيد المصري ست سفن حربية تابعة للأسطول الفرنسي في البحر المتوسط، آتية من منطقة جبل موسى في تركيا. وكانت هذه السفن كما يقول الإمام مُحمّلة بأكثر من أربعة آلاف لاجئ أرميني فارين من تركيا على أثر المذابح التي ارتكبت في حقهم حينها من قبل الجيش العثماني. وعلى الرغم من أن الوجود الأرميني في مصر له جذور تاريخية أبعد من هذا التاريخ بكثير كما يذهب الباحث المصري، إلا أن هذه الهجرات التي حدثت في بداية القرن العشرين كانت الأكثر كثافة بين موجات النزوح التاريخية للأرمن إلى مصر، وبرز حضورهم مذاك في مجالات عدة.
ومن بين المجالات التي لمع فيها الأرمن، كان الفن التشكيلي، إذ ارتبط تاريخ الفن المصري الحديث بعدد من الأسماء ذات الأصول الأرمينية. ومن بين هذه الأسماء يأتي ألكسندر صاروخان، وهو مصور أرميني الجذور، احترف العمل في رسم الكاريكاتير السياسي في الصحف المصرية منذ عشرينيات القرن الماضي. ويُعدّ صاروخان واحداً من بين ألمع رواد هذا الفن في البلاد خلال النصف الأول من القرن العشرين، إذ ظهر في وقت كانت الصحافة المصرية في أوج نشاطها، فحفر لاسمه مكانة بارزة في تاريخ هذا الفن، ليس برسومه الكاريكاتيرية وحدها بل بإسهامه في خلق (وتبنّي) جيل جديد من الرسامين المصريين الذين حملوا على عاتقهم لواء هذا الفن في ما بعد.
عدد كبير من الرسوم الكاريكاتيرية لصاروخان عرضت أخيراً في القاهرة تحت عنوان "روسيا في ذاكرة الكاريكاتير المصري" الذي استضافه المركز الثقافي الروسي. نُظم هذا المعرض بالتعاون بين المركز الثقافي الروسي ومشروع "ذاكرة الكاريكاتير" الذي أسسه الباحث المصري عبدالله الصاوي، وضم أكثر من سبعين رسماً كاريكاتيرياً لـ12 رساماً، من بينهم 30 عملاً أصلياً لصاروخان وحده. وتعود غالبية الأعمال المشاركة في هذا المعرض إلى فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وهي فترة مضطربة بالأحداث والصراعات الدولية، التي كانت في صدارتها الحرب العالمية الثانية.
الأعمال المشاركة في المعرض، تم اختيارها من كونها تلقي الضوء على مجريات الأحداث العالمية في تلك الحقبة الفاصلة في التاريخ الحديث، ومن بينها وقائع حاسمة في الصراع بين جيش هتلر وجيوش الحلفاء. وإن تم التركيز أكثر هنا على هذه الأعمال الكاريكاتيرية التي تتناول الدور الروسي في هذا الصراع، وهي أعمال تتبنّى بطبيعة الحال وجهة نظر الحلفاء. تظهر هذه الأعمال الدور الذي لعبه الكاريكاتير السياسي كأحد أبرز وسائل الدعاية المضادة ضد الجيش النازي، كما تشير في جانب منها إلى طبيعة المرحلة السياسية التي كانت تمر بها مصر حينها، والتي سيطر عليها الاصطفاف خلف معسكر الحلفاء بحكم وقوع مصر وقتها تحت الاحتلال البريطاني.
يتزامن المعرض مع مناسبتين مهمتين، هما الذكرى الـ 76 لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية، وذكرى مذابح الأرمن التي ارتكبها العثمانيون في حقهم بعد الحرب العالمية الأولى، والتي يتم إحياؤها كل عام في 24 أبريل (نيسان)، إذ تسببت هذه المذابح التي راح ضحيتها ما يزيد على المليون شخص بهجرة عدد كبير من العائلات الأرمينية خارج وطنها، ومن بينها عائلة ألكسندر صاروخان.
فن مصري أرمني
إلى جانب صاروخان، ضم المعرض أسماء أخرى بارزة من بينها المصريان محمد عبد المنعم رخا وزهدي العدوي وخوان سنتيس، وهو فنان من أصول إسبانية عمل في الصحافة المصرية في بداية القرن الماضي، إلى جانب عمله كمدرّس لمادة الحفر في مدرسة الفنون الجميلة الناشئة. وعلى الرغم من هذا الحضور المتنوع، فقد بدا المعرض كأنه احتفاء خاص بالفنان الراحل ألكسندر صاروخان لكونه يستأثر بالجانب الأكبر من الأعمال المعروضة، خلافاً لهذا الحضور اللافت لعائلته ومشاركتها في مراسم الافتتاح.
ما يميّز أسلوب ألكسندر صاروخان هو قدرته على استيعاب روح الفكاهة المصرية في رسومه بسهولة، معبّراً عن قضايا وشرائح اجتماعية عدة أحسن تعبير. جاء صاروخان إلى مصر عام 1924 واستقر أول الأمر في مدينة الإسكندرية حيث التقى بمحمد التابعي، وكان يرأس تحرير مجلة "روز اليوسف". أعجب التابعي برسوم صاروخان ومنحه فرصة نشرها على صفحات المجلة التي ظل يعمل فيها سنوات عدة. ابتكر صاروخان خلال عمله في مجلة "روز اليوسف" عدداً من الشخصيات الكاريكاتيرية، غير أن أهمها هي شخصية "المصري أفندي" وهي أول شخصية كاريكاتيرية تعبّر عن المزاج الشعبي للمصريين في الصحافة المحلية. بعد "روز اليوسف"، انتقل صاروخان إلى العمل في مجلة "آخر ساعة". وحين ذهبت ملكية المجلة إلى مؤسسة "أخبار اليوم"، انتقل صاروخان إلى العمل مع رائدَي الصحافة مصطفى أمين وعلي أمين، وظل يعمل معهما حتى وفاته عام 1977 .
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تميّز صاروخان بتمرده على النمط السائد في الرسوم الكاريكاتيرية بخطوطه القوية والصريحة. كما أن شخوصه عبّرت تعبيراً دقيقاً عن روح الشخصية، لا مجرد محاكاة لمظهرها، ولا تملك حين تتأملها إلا أن تبتسم مدهوشاً بقدرته الفريدة على صوغ ملامح أو سمات كل شخصية من الشخصيات التي رسمها. وأثبت صاروخان في كتابه "هذه الحرب" الذي خطته ريشته ضد الفاشية والنازية خلال الحرب العالمية الثانية بأنه رسام مفكر أيضاً، وأن أفكاره تنمّ عن ثقافة عالية وموقف إنساني واضح ورأي سياسي. كان صاروخان مصوراً من الدرجة الأولى، يعرف كيف يصمم لوحته ويلوّنها، وهو إضافة إلى ذلك مصور تشخيصي على درجة عالية من الاحترافية. ويظهر هذا في رسوماته للشخصيات والبورتريهات التي أبدعها وتم نشر بعضها في الكتاب التوثيقي الذي صدر بعد وفاته. لم يكن صاروخان مجرد رسام كاريكاتير، ولم يكن مجرد فنان حفر لنفسه مكاناً في تاريخ فن الكاريكاتير المصري، بل كان مفكراً وسياسياً ومدافعاً شرساً عن حرية التعبير، ومعلّماً لأجيال عدة من رسّامي الكاريكاتير المصريين.