تشكل زيارة المبعوث الأميركي جيفري فيلتمان للقاهرة أولى خطوات تفاعل إدارة بايدن مع الأزمة المحتدمة بين أطراف حوض النيل الأزرق، وهي خطوة من غير المعروف على وجه الدقة إلى أين ستنتهي؟ وما إذا كانت سوف تأخذ بعين الاعتبار مخرجات مباحثات واشنطن في فبراير (شباط) 2020، أو تتجاهلها في ضوء موقف بايدن السلبي لفترة ترمب ومسارات إدارته في كافة القضايا الداخلية والخارجية.
المؤشرات الأولية لدولتي المصب مصر والسودان بشأن مهمة جيفري فيلتمان لا تبدو إيجابية، ذلك أن الرجل تصنيفه السياسي "دون وزاري" كما أن بيان التكليف من الخارجية الأميركية المعلن عنه للمبعوث الأميركي إلى منطقة القرن الأفريقي لم يذكر أن أزمة سد النهصة تحت ولايته، وهو أمر يمكن تفسيره على مستويين متناقضين أحدهما إيجابي والآخر سلبي.
تقديران إيجابي وسلبي لدور المبعوث الأميركي
في التقدير الإيجابي ربما تكون الإدارة الأميركية تخطط لتدخل أعلى مستوى طبقاً لمخرجات لقاءات فليتمان مع أطراف الصراع، أما التقدير السلبي فينصرف إلى أن مستوى اهتمام واشنطن بهذا الصراع منخفض، وأن الإدارة غير معنية باستقرار إقليم حوض النيل وما قد يترتب على الصراع فيه من مشكلات سياسية ومآس إنسانية، ولعل ما يقود إلى التحليل الأخير أن واشنطن لم تتدخل لتحجيم فرص الحرب على إقليم تيغراي مثلاً، على الرغم من أهمية إثيوبيا بالنسبة إلى المصالح الأميركية والإسرائيلية معاً، ولكنها تتدخل الآن ومن زاوية ضيقة، هي خروج القوات الإريترية من الإقليم للتأثير في توازنات القوى لصالح آبي أحمد.
وقد يدعم الاتجاه الأميركي السلبي مخرجات اجتماع على تطبيق زوم جمعني بسفراء وباحثين أميركيين قريبيين من الإدارة الديمقراطية في هذه المرحلة، وذلك تحت مظلة مبادرة إدارة الأزمات الفلندية، حيث وضح أن طبيعة اهتمامات واشنطن الاستراتيجية مقتصرة على الصين ورسيا، فضلاً عن الأوضاع الداخلية الأميركية، مشيرين أن الأدارة لن تتحول تجاه أي من الأزمات الإقليمية إلا إذا تحولت إلى أزمة مدوية.
بطبيعة الحال خبراء الجنوب اعتبروا أن الاستخفاف الأميركي بأزمات الشرق الأوسط وحوض النيل، سوف يكون مدفوع الأثمان أميركياً وعلى مدى قصير.
في هذا السياق يمكن القول إن تحركات إدارة بادين إزاء أزمة السد تبدو شحيحة بشكل عام، ولكنها مؤثرة في اتجاهات التفاعلات حتى هذه اللحظة في دول الأزمة، ونذكر في هذا السياق صدور بيان أميركي رافض للتحركات الأحادية، وهو البيان الذي جاء في أعقاب أمرين، تلويح الرئيس السيسي بإجراءات تصعيدية في حال الاقتراب من تجربة المساس بمياه النيل، وذلك من على شواطئ قناة السويس، وتصريحات إثيوبيا أنها تتجه للملء الثاني لبحيرة السد دون اتفاق، وهنا لم يحدد البيان الأميركي مصادر التصرفات الأحادية على وجه الدقة ومن أطرافها؟
في المقابل نرصد أن القاهرة تهتم اهتماماً بالغاً بالدور الأميركي على اعتبار أنه قد يكون آخر فرصة لوساطة مؤثرة في هذا الملف الملتهب، قد تقود إلى اتفاق ملزم قانوناً لإثيوبيا. ولعل مسارات اجتماعات فيلتمان في القاهرة تشير إلى ذلك الاهتمام، حيث إن اجتماعات المبعوث الأميركي في القاهرة كانت على مستويين، الأول هو السياسي، فقد قابل الرئيس عبد الفتاح السيسي الذي أكد الطابع الاستراتيجي لمسألة المياه لدى الدولة المصرية من حيث أنها قضية وجودية، وأن مصر لا تستطيع القبول بما يمس مقدرات شعبها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذا الاجتماع حمل الرئيس السيسي المجتمع الدولي مسؤولياته مشيراً إلى أهمية الدور الأميركي في حل الأزمة. أما في ما يتعلق بأطر التفاوض فربما تكون إشارة السيسي مهمة بأن كل الأطر مقبولة، بما فيها الاتحاد الأفريقي بشرط تحقيق المهمة والغرض النهائي الذي فصلته القاهرة بالقول، إنها ما زالت تسعى للتوصل إلى اتفاق عادل ومنصف وملزم قانوناً لملء وتشغيل سد النهضة، من خلال مسار المفاوضات برعاية الاتحاد الأفريقي". وهو موقف ترد به مصر على إثيوبيا التي تزعم أن القاهرة تسعى لتدويل الصراع دون حله.
أما على المستوى الفني فقد كان هناك اجتماع منفصل بين المبعوث الأميركي وكل من وزير الخارجية المصري سامح شكري ووزير الري محمد عبد المعطي، الذي من المتوقع أن تكون فيه المسائل الفنية حاضرة، خصوصاً في مسألتي الجفاف والجفاف الممتد، المعروفتين عن هيدروليكية نهر النيل، كما عرضت القاهرة سيناريوهات الاتفاق الـ15 التي أعلنت أنها قد طرحتها في المباحثات على فترات متعددة.
وطبقاً لبعض التحليلات، فإن القاهرة أيضاً تفعل أدوات الردع اللامادي، مثلاً تغيير لوحة في صالون استقبال فيلتمان ووفده إلى لوحة حرب في القرون الوسطى، أو الإعلان عن صفقة جديدة لشراء طائرات الرافال.
اتجاهات الإدارة الأميركية تجاه السودان متشابكة ومتعددة ومفصلية، وربما هذا ما يفسر التراجع السوداني عن الاستمرار في تطوير العلاقات البحرية مع روسيا، من هذه الزاوية تكون الضغوط الأميركية على السودان فعالة في مسألة سد النهضة، خصوصاً أن حجم ضرر السد على السودان لا يقارن مع مصر التي سوف تتحمل الجانب الأكبر من الأضرار على المستويين المتوسط والبعيد، ولكن هذا المستوى من الضرر لا يكون إلا بتحييد عامل أمان السد على المستوى الفني، وهو العامل المؤثر في مصير السودان، ولا يستطيع أحد على وجه اليقين تحديده راهناً نظراً لنجاح إثيوبيا في تعطيل تقييم أثر السد من جانب مكاتب عالمية مستقلة ومتخصصة في هذا المجال.
وبطبيعة الحال تحاول السودان مقاومة الضغوط الأميركية عليها، وربما يكون الاجتماع الأخير الذي ضم وزيرة الخارجية السودانية مريم الصادق المهدي وقوى الحرية والتغيير خطوة في هذا الاتجاه، ذلك أن موافقة قوى الحرية والتغيير على مخرجات هذا الاجتماع المفضية إلى أن سد النهضة آلية سيطرة وهيمنة إثيوبية على الإقليم، تشير بشكل واضح إلى وحدة الموقف السوداني الوطني بشكل عام، وإدراكه بطبيعة أخطار سد النهضة على السودان، فضلاً عن ذلك فإن القوى الثورية بموافقتها على مخرجات الاجتماع قد فارقت إدراكات قديمة، أن إثيوبيا صديقة للمكون المدني السوداني، وأدركوا ربما بتكلفة استراتيجية عالية على السودان، أن مناصرة آبي أحمد لقوى الثورة السودانية لم تكن إلا خداعاً استراتيجياً.
واشنطن والحل الجذري لمشكلة السد
المنظور الأميركي في التعامل مع سد النهضة قد لا يقترب من مسألة الحل الجذري الذي تريده دولتا المصب، أي الاتفاق القانوني الملزم، وغالباً سوف تتجه الإدارة الأميركية نحو محاولة تمرير الملء الثاني، ولكن بتسهيلات إجرائية، بمعني أن المدى الزمني يكون شهرين، وهو مطلب سوداني أساسي حتى لا تتأثر إمدادات المياه وتوليد الكهرباء في البلاد.
ويدعم هذا التحليل عدداً من الأمور منها، أن الخطابين السياسيين لكل من مصر والسودان غير واضح فيهما استخدام أي لغة خشنة إزاء واشنطن، فنشهد أن اللغة الدبلوماسية منضبطة إلى حد أن الطرف الأميركي قد لا يدرك طبيعة التحدي الذي تواجهه الدولتان في الوقت المناسب، كما أن كلاً من القاهرة والخرطوم ما زالتا متمسكتين بإعلان المبادئ، ولم تمارسا أي تلويح بالانسحاب منه حتى يشعر الطرف الأميركي بمدى حساسية الموقف. وفضلاً عن ذلك، فإن مساحات تعبير الرأى العام في البلدين بالغضب من طبيعة الأداء الرسمي، تبدو محصورة على وسائل التواصل الاجتماعي تحت مظلة ندرة في تصريحات المسؤولين، خصوصاً على الجانب المصري، من هنا فإن الصوت الشعبي في كل من مصر والسودان غير مسموع في واشنطن، ولا تساعد كل من القاهرة والخرطوم أن يكون واضحاً وعاملاً من عوامل التأثير.
وتبدو إحدى مشكلات تقدير الموقف الأميركي بشأن سد أزمة سد النهضة، أنه يقوم بالقياس على الأداء المصري في الأزمة الليبية، حيث لوح بالحرب، ولكنه لم يخضها، ومشكلة هذا التقدير أنه لا يعرف ماذا يعني نهر النيل لمصر والمصريين، فضلاً عن أن الأزمة الليبية لم تكن أزمة وجودية لمصر.
أما في ما يخص مهمة المبعوث جيفري فليتمان، فإن جهوده ستكون مشتتة في هذه المرحلة ومتعددة المستويات فضلاً عن تشابكها، فالرجل يبحث في قضايا مشتعلة في إقليمين كبيرين هما حوض النيل والقرن الأفريقي، فمن سد النهضة، لأزمة الحدود السودانية الإثيوبية، لأزمة إقليم تيغراي وتداعياتها على الجسم الإثيوبي كله، وهي قضايا كبيرة ومعقدة وأكبر بكثير من قدرات فليمتان وفريق عمله.