نشأ الفنان المغربي محمد باعلا بعيداً عن والديه، غير أنهما كانا دائمي الحضور في حياته كما يقول، فكلما التقى أشخاصاً يعرفونهم ذكروه بهم وبأسمائهم وذكرياتهم معهم. وفي كل مرة يخبرونه كيف أن لديه ملامح من والده، أو أن لديه عينا والدته أو ابتسامتها. هذه الذكريات التي كان يستمع إليها الفنان المغربي شكلت من دون أن يدري ذكرياته عن والديه، ذكريات ليس له وجود فيها، لكنها تخصه. يقول الفنان: "دائماً ما كنت أشكك في طبيعة العلاقة بين الحضور والغياب، كتلك الرابطة التي تجمعني بوالدي، فعلى الرغم من غيابهما فإنني أراهما في كل ركن، وأشعر بوجودهما في كل التفاصيل من حولي، فهما غائبان وحاضران في الوقت نفسه". يؤمن باعلا أن الحياة دائماً ما تعصف بمثل هذه التعريفات التي نتعامل معها كبديهية، فالصورة قد تذكرك بأخرى، والصوت يحيلك إلى صوت آخر، حتى الرائحة قد تستحضر أحياناً ما يماثلها في ذاكرتك.
على ضوء هذه العلاقة الغائمة بين الحضور والغياب قدم الفنان المغربي أخيراً مجموعة من أحدث أعماله الفنية في غاليري "دو لاكروا" في المركز الثقافي الفرنسي في مدينة طنجة المغربية. يستمر المعرض حتى نهاية هذا الشهر، ويضم مجموعة من الأعمال الفنية التي تراوح بين الرسم والنحت والتجهيز، يعرضها باعلا تحت عنوان "غياب وحضور شظايا بين اليد والعقل".
محمد باعلا المعروف باسم مو باعلا هو فنان متعدد التخصصات، فهو يمارس العزف والغناء بالقدر نفسه، والكيفية التي يشكل بها أعماله الفنية الموسومة بالتمرد على النمط إلى حد الجموح أحياناً. لا تستطيع أن تضع حاجزاً بين حياة مو باعلا الشخصية وممارساته الفنية، إذ يمتزج كلاهما في قوام واحد ومتناغم. ما يرتديه من ملابس مثلاً لا يختلف عما يعرضه من لوحات ورسوم. هو يرسم على أي شيء وبأي خامة، كما يؤلف الموسيقى، وينشئ تجهيزات ذات ألوان صارخة، مستحضراً لعناصر ومفردات من حياته اليومية، أو مبتكراً لأشكال جديدة وخيالية. تمزج أعمال الفنان المغربي دائماً بين التجهيز والنحت والرسم والغرافيتي والتصوير الفوتوغرافي، وهو يشكلها من طريق العناصر ذات الألوان الزاهية والزخارف البراقة التي يستلهمها عادة من الصناعات الحرفية التقليدية. ينتقل مو باعلا بسلاسة من فن الملصقات إلى الصباغة، ومن المجسمات إلى الرسم على القماش والجلد، ومن النحت على الخشب إلى التشكيل بالمعدن أو الحجر والخزف، مروراً بالموسيقى وشغفه بتصميم الأزياء. في تلك الأعمال ذات الوسائط المتعددة يمد مو باعلا جسوراً خيالية بين أحلامه ورؤيته الشخصية لكثير من الأمور والأحداث، ليخرج لنا في النهاية بهذه التوليفة التي لا تقل جموحاً عن شخصيته.
كائنات خيالية
لم يتلقِ الفنان المغربي مو باعلا تعليماً أكاديمياً في أي من المؤسسات الفنية المتخصصة، فهو علم نفسه بنفسه. دأب باعلا على توثيق تشرده وهو صغير في شوارع مدينة تارودانت القديمة وبين حوانيتها، حيث عمل لفترة بائعاً متجولاً. كان يوثق هذه التجارب في شكل رسوم على الجدران أو منحوتات حجرية، أو في أعمال وتراكيب فنية بالغة الجموح.
كان يرى الأشكال في خربشات الجدران وتجمعات السحب ويلمح بسهولة التماثيل الحجرية الحبيسة بين كتل الأحجار الجيرية التي اشتهرت بها مدينة تارودانت، حتى ظن من حوله أن به مساً من الجنون. كانت هذه الممارسات تمثل له، كما يقول، وسيلة ناجحة لتخفيف انفعالاته، وإزاحة هذا التوتر الذي طالما شعر به بسبب وصمه بالجنون. في أعماله يرسم مو باعلا كائنات خيالية، هي مزيج بين البشر والوحوش أو الحيوانات والطيور، كأنه يستحضر خيالاته وتصوراته الطفولية حول الأشياء، كما أنه فنان دائم الإطلاع، غذى شغفه بالأدب والسينما والموسيقى والفلسفة. ولطالما عرف نفسه بأنه شاعر وسط الحرب، لذا فهو دائم الشعور بالخطر كما يقول. علمه الفن كيف يراقب الأشياء ويستمتع بما تخفيه من تفاصيل، قد لا يتمكن الآخرون من كشفها، معبراً في تشكيلاته تلك عن هشاشة الوجود وجماله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولد مو باعلا عام 1986 في مدينة الدار البيضاء، ثم انتقل إلى مدينة تارودانت، وهو يستلهم أعماله الفنية والإبداعية من الفنون والحرف التقليدية المغربية والأفريقية، وهو يعيش ويعمل حالياً في مدينة مراكش. منذ مشاركته في بينالي مراكش الدولي عام 2016 لفت مو باعلا إليه الانتباه، ومن حينها أقام عدداً من العروض الفردية بين المغرب وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، كما شارك في عديد من المعارض الجماعية، ومثل المغرب في كثير من المحافل الدولية، كما أصدر عدداً من الألبومات الغنائية والموسيقية.