لم تعد سندويش الفلافل تُعامل بازدراء على أنها طعام الفقراء وتنتمي إلى قائمة الطعام الشعبي بسبب ثمنها الزهيد وقدرتها على الإشباع، بل باتت اليوم طبقاً عالمياً يمكن تناوله في أي مدينة كما "الهمبرغر" أو "البيتزا" أو "الشاورما" أو "السوشي".
الفلافل العالمي
وبات الفلافل محل اهتمام النباتيين حول العالم كونه غذاء كاملاً يعوضهم عن عدم تناول أنواع اللحوم، وهو اليوم يدخل في مجموعة من المناسبات الدولية التي تصنفها منظمات الأمم المتحدة، فهو حاضر في "اليوم العالمي للبقول" لكونه من الحبوب، و"اليوم العالمي للأغذية" و"اليوم العالمي للجوع" ومن ضمن "التراث غير المادي" للـ "يونيسكو"، بل احتفل به محرك "غوغل" في 18 يونيو (حزيران) 2019، مما جعل كثيرين يعتقدون أنه اليوم العالمي للفلافل، ونُشرت مئات التحقيقات والمقالات والتقارير على هذا الأساس، ولكنه لم يكن يوماً عالمياً للفلافل، بل اختياراً من القائمين على "غوغل" للفلافل في "اليوم العالمي للطبخ المستدام"، أي الطبخ الذي بإمكانه القضاء على الجوع ومساعدة الفقراء حول العالم.
والفلافل الطبق الشرق أوسطي، يجده جميع من يتذوقه من الثقافات الأخرى طبقاً شهياً، فهو مصنوع من الفول أو الحمص أو كلاهما معاً، على شكل كرات تقلى في الزيت النباتي، وتدخل في السندويش مجموعة من الخضراوات كالفجل والنعناع والبقدونس والطماطم (البندورة) والمخلل، ثم يُرش فوقه "الطراطور" وهو خليط من اللبن والطحينة التي تُصنع من السمسم، والتي تدخل في صناعة صحن الحمص الذي بات طبقاً عالمياً أيضاً، وتدخل في خليطه مجموعة من التوابل الخاصة به.
والاختلاف في طعمه بين مدعي امتلاك "حقوقه الفكرية والثقافية" في منطقة الشرق الأوسط تحققه التوابل التي هي سر من أسرار "مطبخ المصلحة" لا يفشيها صاحبها، ثم هناك بعض الإضافات على الطبق، ففي سوريا، يضاف البصل والكزبرة، وفي فلسطين، الحمص بالطحينة ودبس الرمان بحسب الذوق، وفي مصر يؤكل مع المخللات فقط، وفي لبنان يضاف الثوم إلى خليط الحمص والفول.
مكونات هذه السندويتش ذات فوائد غذائية كبيرة، ما يجعل هذا الطبق أو السندويش مفضلين لدى النباتيين وغير النباتيين والفقراء والأثرياء، وفي بلاده الأصلية وفي البلاد التي هاجر إليها مع المهاجرين من منطقة الشرق الأوسط.
هوية الفلافل
بعد شهرة الفلافل العالمية، بدأ الصراع الثقافي والسياسي حول أصوله، فالمصريون الذين يسمونه الطعمية، أي قضمة من الطعام، يقولون إنه من أصول فرعونية أو قبطية، فوفقاً لبعض المراجع كان الفلافل قبل نحو ألف عام الطعام المفضل لدى المسيحيين الأقباط في مصر، وكانوا يقدمونه كوجبة صيام نباتية، وأن اسمها جاء من الإسكندرية، حيث كانت أولى مَن أطلق عليه اسم "فا - لا - فل" وهي كلمة قبطية تعني "ذات الفول الكثير".
وبحسب الباحثين بول بالطا وفاروق مردم بيه، تم ذكر الفلافل في الأدب المصري بعد الاستعمار البريطاني 1882، فبرأيهما كان الضباط البريطانيون قد أعجِبوا واعتادوا على "كروكيت" الخضراوات المقلي في الهند، فطلبوا من طباخيهم المصريين طهي طبق مماثل باستخدام المكونات المحلية المتوافرة، لكن طبعاً تبقى هذه التفسيرات مجرد تخمينات لأصوله.
في بلاد الشام، الصراع على أشده، أولا بين الفلسطينيين والسوريين واللبنانيين، وينسبه كل فريق منهم إلى مائدته، وهناك الصراع بين هؤلاء جميعهم والإسرائيليين الذين يعتبرونه مكوناً أساسياً وأصلياً لمائدتهم، وهم يبيعونه في أنحاء العالم على هذا الأساس، حتى اختلط الأمر على آكليه حول العالم في أصله، وأساساً، دخل صحن الحمص والتبولة في صراع الملكية هذا، أيضاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن المعلوم، بحسب التراث الشعبي الفلسطيني أن الفلافل لدى الفلسطينيين مرتبط بأيام الجمعة، حين تجتمع العائلة على مائدة الطعام ويكون الفلافل الطبق الرئيس الذي يجمعهم، إلى جانب الحمص والفول والسلطة العربية وكعك القدس المغطى بالسمسم، ويعتبر الفلسطينيون والعرب رده إلى المائدة الإسرائيلية كسطو من قبل المهاجرين اليهود الأوروبيين الأصوليين الذين قرروا طمس كل ما يمت إلى الثقافة والتقاليد العربية بصلة، والفلافل أحدها، وقبل انتهاء عام 1961 اكتملت عملية التأميم وتم التعميم أن الفلافل هو أفضل الأطباق الإسرائيلية إطلاقاً، فأصبح يقدم بفخر برحلات الطيران الطويلة الخاصة بشركة "العال" الإسرائيلية للطيران.
وبدأ الفلافل بالانتشار على نطاق أوسع حين تدفقت أعداد كبيرة من المهاجرين العرب والأتراك ونقلوا شهرته لأوروبا، فقد قام الأتراك بمد جذورهم في ألمانيا ما جعل الفلافل يتمتع بشهرة واسعة. في البداية، كان المهاجرين وحدهم من يتناولون هذا الطبق، ولكن في بداية السبعينات أصبحت المطاعم التركية متاحة لعدد كبير من الألمان ما شكل تغييراً كلياً جديداً على وصفة الفلافل هناك.
الفلافل والأزمات الاقتصادية
لو لم تكن سندويش الفلافل شهية وذات أهمية خاصة ما كانت لتتحول إلى محل صراع ثقافي وسياسي، ولكن الأهم ما في الأمر أن هذه السندويش التي اعتبرت طويلاً طعاماً للفقراء بسبب ثمنها الذي في متناول الجميع، وقدرتها على الإشباع، لم تعد كذلك في دول الشرق الأوسط، كلبنان وسوريا ومصر والأردن وفلسطين واليمن حيث تسمى "الباجية"، فقد أدت الأزمات الاقتصادية المتتالية بسبب جائحة كورونا أو بسبب الحروب المتناسلة والمتمادية أو بسبب التضخم الاقتصادي وارتفاع سعر الدولار، إلى ارتفاع ثمن كل مكوناتها بشكل كبير وعلى رأسها زيت القلي النباتي، فارتفع ثمن السندويش ليضاهي السندويشات التي كانت تعتبر للطبقة الوسطى مثل "الهمبرغر" و"البيتزا" و"الشاورما"، وجرت محاولات كثيرة من أجل تحديث هذا الطبق، فبات له في مطاعم كثيرة خيارات واسعة لتناوله بنكهات مكسيكية ويونانية وإسبانية وغيرها، ودرج في معظم العواصم نوع جديد من مطاعم الفلافل التي تفتتح في الأحياء الثرية، وتكون ذات ديكورات عصرية ونظافة عالية، فيشعر المار بقربها أن السندويش الخارجة منها "بنت أكابر" كما يقول المصريون، مقارنة بنظيرتها "الشعبية" التي تكون محال بيعه في الأحياء الفقيرة أو الشعبية، والتي تشبه هذه الأحياء، فيها الكثير من الحميمية والكرم، ولكن الكثير أيضا من آثار الزيت المقلي في كل مكان ورائحته التي تتولد من استعماله، مرات أكثر مما يجب.
لكن الجوع مع الفقر لا يعرفان لمثل هذه المفارقات أي معنى، والأمعاء الخاوية تطحن كل شيء، كما هو واضح في كل المجتمعات الفقيرة أو التي يحب المجتمع الدولي تسميتها "النامية" تخفيفاً من قسوة أي تعريف آخر.
نجاة الفلافل "الشعبي" و"الراقي"
في مقابلاتنا مع صاحبي مطعمين للفلافل، أحدهما في منطقة شعبية والآخر في منطقة راقية من بيروت، حصلنا على الإجابات نفسها تقريباً، صاحب المطعم الشعبي يقول إن أسعار كل مكونات السندويش ارتفعت بما يقارب الأربعة أضعاف بدءاً من الخبز مروراً بالحبوب ومن ثم الخضراوات، "ولكننا لم نتمكن من رفع سعر السندويتش بالنسبة نفسها، وإلا لن يتمكن أحد من شرائها. لقد قسمنا هذا الارتفاع بالسعر بيننا وبين الزبائن، أي قللنا من نسبة الربح وأضفنا زيادة قليلة على السعر. يمكنني القول إن عدد السندويشات المباعة يومياً قد انخفض بنسبة الثلث، بعدما لجأ الناس إلى الاقتصاد في المصاريف والطبخ في المنزل، ولكننا لا نخاف من الخسارة أو الإقفال، فالطعام اليومي لا يتوقف عن العمل طالما أن الناس تحتاج لأن تأكل".
صاحب المطعم في المنطقة الراقية كان أقل تأثراً بارتفاع الأسعار، يقول، "لقد ساعدنا الحجر المنزلي على زيادة البيع بطريقة مختلفة وهي إيصال الطلبات إلى المنازل بواسطة مواقع "الدليفري" الكثيرة. وهذا ما لم يكن سائداً بالنسبة لسندويش الفلافل. وتحايلنا على ارتفاع الأسعار بتصغير السندويش كي نتمكن من الحفاظ على أعمالنا، فمطاعمنا ذات تكاليف إضافية مقارنة بالمطاعم الشعبية، في الإيجار ورواتب الموظفين والضرائب، لكن على الرغم من كل شيء، ما زالت السندويش مطلوبة من كثيرين خصوصاً النباتيين الذين باتت الأطباق التي كانوا يطلبونها من المطاعم المتخصصة مرتفعة الثمن".
سندويش الفلافل تدخل في إطار "التراث غير المادي" لمنطقة الشرق الأوسط، وبغض النظر عن أصول هذا الطبق، فإنه استطاع أن يفرض نفسه عالمياً ويتكيف مع الأذواق المختلفة للمطابخ. وساهم في رفع درجة المساواة بين آكليه من الأغنياء والفقراء، على الأقل. وسيساهم في توحيد الثقافات عاجلاً أم آجلاً، فلا يتشدق فريق بملكيته من دون آخر، فهل يمكن للإيطاليين القول إن "البيتزا" إيطالية بعدما باتت طبقاً عالمياً تغيرت أشكاله بحسب المطابخ في العالم؟ وهل يستطيع "الهامبرغيريون" الألمان القول إن "الهمبرغر" لهم ويريدون استعادته بعدما بات إحدى علامات العولمة اللامعة؟